Atwasat

اللعب في بطن الثورة

سالم العوكلي الأحد 19 نوفمبر 2017, 12:05 مساء
سالم العوكلي

تولد الثورة حبلى، ففي رحمها تتخلق ثورة أو ثورات أخرى، بشكل إيجابي أو سلبي، ثورة تتخلق بعد انحراف الثورة الأم عن مسارها وأهدافها، أو ثورة مضادة يضع نطفتها المتربصون بها إذا ما أصبحت النتائج في غير صالحهم، وفي جميع الأحوال كثيرا ما تدافع الدولة العميقة عن نفسها مستغلة فشل أو انحراف الدولة الجديدة المدعو لها بكل إجراءات وقوانين تَطهُرِها ورغباتها المحمومة في اجتثاث كل ما يمت للنظام القديم بصلة، بإيجابياته أو سلبياته، ولم تخلُ محاولة تغيير أو ثورة من مصطلحات مثل؛ سرقة الثورة، الثورة المضادة، تصحيح المسار، أو الثورة الثانية، أو الثورة تأكل أبناءها.

في الماضي، وقبل التطور الكبير لوسائل الاتصال والتواصل، وقبل تضخم المؤسسات الإعلامية واختراقها لكل الحدود، كانت الثورات شبه معزولة عن العالم الآخر وتتفاعل داخل مكونات المجتمع المعني بها، حيث لا نسبة تذكر لما يسمى الآن بتدخل الأجندات الخارجية. وفي عصرنا، أو ما يسمى عصر العولمة، يُنتهك حرم الثورة مثلما تنتهك سيادة الدولة القائمة فيها، وتصبح محاولات التغيير الداخلية هدفا للقوى الكبرى والفاعلة من أجل تعديلها أو التحكم فيها لتتماشى مع سيناريوهاتها المرسومة للمنطقة من أجل استمرار تدفق مصالحها. وبالتالي ستكون الثورات المحلية لعبة في يد الأجندات المتصارعة وفي يد الأخطبوط الإعلامي الذي يحاول تكييفها لمزاج مموليه، ويصبح هم تلك القوى ـ خصوصا إذا كان التغيير ظاهرة إقليمية ـ متمحورا حول البديل المناسب للنظام القديم الذي من شأنه أن يصلح ليكون جزءا من إستراتيجية هذه القوى في المنطقة لأمد متوسط أو بعيد.

فضلا عن ذلك فإن للثورات بمفهومها التاريخي مأزقاً بنيوياً داخلياً، يجعل من شروط نجاحها أسباب إخفاقها، فالثورة حالة هيجان شامل ودون هذا الهيجان لن تكتمل، أو بمعنى آخر، هي حالة غنائية بامتياز يحيلها الحشد إلى مظهر من الوجد الشامل الذي لا ينصت سوى لمونولوجه الداخلي، وعادة ما ترافقها هتافات مستجيبة لهذه الغنائية ولا ترى الأمور إلا بصورة مسطحة ذات بعدين، لأن الوعي بالبعد الثالث لمحاولات التغيير الجذري قد يعكر هذا الوجد. في روايته المقتبس عنوانها "الحياة هي في مكان آخر" عن عبارة كُتبت على جدار السوربون في ثورة الطلاب إبان الستينيات، يقول الروائي ميلان كونديرا: "لا تريد الثورة أن يدرسها المرء ويتفحصها، بل تريده أن يلتصق بها، بهذا المعنى هي غنائية، وبهذا المعنى الغنائية ضرورية لها".

هذا الالتصاق العضوي بالثورة كحالة هو الذي أنتج في النهاية سلطات ولدتها الثورة وظلت تلعب في بطنها رافضةً قطع مشيمتها، استحْلّتْ هذا الوجد الجماهيري الذي يرافق فكرة التمرد الغنائية، واستمرت تحكم بتاج الثورة لعقود طويلة،ومع الوقت تحولت إلى أنظمة أشد فتكا وتشبثا بالسلطة من الأنظمة التي ثارت عليها.

تنتفض الحشود فجأة وتجرؤ على كل ما كانت تخافه فجأة، وتتحول الميادين إلى مسرح كبير تؤجج فيها الهتافات المقفاة بإيقاع فاتن غرائزَ التمرد المولودة مع الإنسان، وفي سياق هذا الشعر الذي يكتب في الهتافات يمكن ترويض العنف المصاحب للتمرد عبر هذه اللعبة الإيقاعية التي تجعل من رنين الشعارات سيركا لترويض المفردات المتوحشة. يقول كونديرا في روايته نفسها التي تتبع تكوين شاعر غنائي موهوب، جعله هذا التماهي مع غنائية الثورة يتحول إلى جلاد يمارس وشاياته بالأصدقاء بمتعة عالية.يقول: "هل ينبغي أن نرى في حب الثورة المنتصرة للقافية افتتاناً عرضيا فقط؟ لا. من دون شك. فللقافية وللإيقاع سلطة سحرية: العالم المشوه المحبوس في قصيدة من الشعر الموزون يغدو فجأة صافيا ومنتظما وشفافا وجميلا. حين توجد في قصيدة ما، كلمة موت (Mort ) في المكان الدقيق الذي رن فيه، في البيت السابق، الصوت بوق (Cor ) ، يصبح الموت عنصرا لحنيا في النظام، حتى ولو كانت القصيدة تحتج على الموت." . والأمر شبيه بانتشائنا بأغاني الموت التي ترافق حمى الثورات "نموت.. نموت.. ويحيا الوطن" دون أن نفكر أن لا وجود لشيء اسمه الوطن دون الإنسان الذي يقطنه، لكن الموت في ذروة غنائيته يحيله الإيقاع الفتان إلى أسطورة رومانتيكية وأحيانا إلى أمنية، فنجعل من ارتخاء عضلات وجه الجثة شهيدا يبتسم، ونرغم الأمهات على أن يزغردن في جنازات أولادهن في أكبر حملة لتشويه المعنى الجوهري لـ (الأم) التي من المفترض أن لا يكون موت جنينها بأي حال من الأحوال عرسا.

سميت ثورات الربيع العربي بثورات الشباب، مع أن كل الثورات في التاريخ عادة ما تكون ذخيرتها من الشباب، لأسباب عضوية ظاهرة تتعلق بقدرتهم الفسيولوجية على المبيت في الميادين الباردة لأيام متصلة، أو التواجد في الجبهات إذا كانت الثورة مسلحة، ولكنْ ثمة أسباب أخرى تتعلق بروح الثورة الغنائية المتناغمة مع عمر الشباب الغنائي، حيث ما تحتاجه الثورة لتكتمل: التهور والعناد والمونولج وعدم الرضا بنصف الحلول والغنائية. بينما مؤرخو الثورات الرومانتيكيون يصفون فرادة هذه الظاهرة الثورية الجديدة بأنها ثورات دون قادة أو زعماء. ثورات ترتجل مسارها، أو يديرها الخيال كما كتب الطلاب على جدران باريس"كل السلطة للخيال".

ورغم أني أشكك في فكرة عدم وجود قيادات لهذا الحراك، الناتجة عن عدم استيعاب للمتغير الجديد الذي قاد هذا الحراك متمثلا في الثورة الرقمية الصامتة، وفي ومواقع التواصل، كأداة جديدة للحشد، حيث قاد هذا الحراك منظمون من العالم الافتراضي، إلا أن العالم الواقعي فيما بعد لفظهم خارجه ليعودوا من جديد إلى معتكفاتهم خلف الشاشات الصغيرة الباردة، إلى عالم هامس أصبحوا يخبرونه جيدا.

من جانب آخر؛ لا يمكن أن نغفل وقع الصورة الرقمية التي ارتبط الحراك بها وباسم بطلها: صورة البوعزيزي وهو يمشي في كتلة من اللهب الذهبي الذاهب في عتمة ما قبل الغروب كمسيح يجرجر صليبه الناري. اكتشف البوعزيزي بعد الصفعة أن لا معنى لحياته، وحين لا يكون للحياة برمتها معنى لا يمكن سوى التفكير في موت له معنى، "جان بالاش الذي رش نفسه بالبنزين في ساحة براغ وأشعل النار في جسده، لربما كان سيصعب عليه أن يهز بصرخته ضمير الأمة، لو أنه اختار الموت غرقا" يقول كونديرا.

ولأن العصر عصر الصورة بامتياز، وعصر مواقع الاتصال التي جل روادها من الشبان، فعلت هذه الصورة/ الأيقونة فعلها بقيادة شبان نشطين جعلوا من الصورة المرفودة بمفردة الكرامة ملصق الاحتجاج الذي لا سلطة له سوى الخيال، وكان الخيال في ذروته عبر هتاف نثري وغير مقفى هذه المرة "الشعب يريد إسقاط النظام" فتحولت الميادين إلى مشهد كوني يتابعه العالم على الهواء مباشرة كما لم يتابع حالة ثورية من قبل، وكان الحراك في قلب العالم والعالم بدوره يسعى لأن يكون في بطن هذا الحراك.

لعب الجميع في بطن كل ثورة على حِدَةٍ وحسب خصوصيتها، وفي عصر محركه المال والميديا، كان لابد من إعادة سياسة ـ ما سمي أثناء الثورة البلشفية "إدارة العاصفة" ـ بما يتوافق مع آثار هذه العاصفة على مصالح الاستثمار التاريخي في منطقة البطن الرخو. الشبيه ببطن جلد الثور الذي كانت تصنع منه أرجوحة معلقة للطفل كي يلعب فيها ويتسلى دون خطر الوقوع، حيث كان المثل الشعبي يطلق على الشخص المسيطر المتلاعب دون خوف "فلان يلعب في بطن ثور".