Atwasat

الحد الأدنى من الدولة

سالم العوكلي الإثنين 26 يونيو 2017, 01:02 مساء
سالم العوكلي

تتعدد المعايير أو الشروط التي حين تتوفر في مجال اجتماعي محدد من الممكن أن نطلق على هذا الحيز اسم (الدولة)، ووفق انعدام بعض أو كل هذه الشروط من الممكن أن تصنف دولة قائمة أو سابقة بالدولة الفاشلة. ورغم اعتبار الكثير من الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين أن صياغة شروط كافية لمفهوم الدولة مهمة صعبة ومركبة، إلا أن ماكس فيبر يذهب إلى اعتماد شرطين أساسيين أو ضروريين لتسمية كيان ما دولة، الأول يتمثل في احتكارها استخدام القوة، والثاني يتعلق بقدرة الدولة على حماية كل من يقيم داخل حدودها.

اللافت أن هذين الشرطين الضروريين، كما يقترح فيبر، يتعلقان بمبدأ القوة والحماية، أو بمعنى آخر بالمفهوم الأمني من خلال امتلاك أدواته ومن خلال طريقة استخدامها، وهو إذ يتجاوز السمات الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية لمفهوم الدولة فلأنه من ناحية يعتبر كل ذلك تحصيل حاصل، وأن هذه الجوانب متغايرة ومتغيرة جغرافيا وتاريخيا، والثابت هو ما يتعلق بالحدود والقوة وتوفير الأمن، وهي الثوابت الرئيسة التي انعدامها تنعكس تداعياته المباشرة على الاقتصاد والسياسة والاجتماع وحتى على الهوية نفسها.

من هذا المنطلق يمكننا أن نعتبر أن الرأي الدارج في ليبيا بأولوية الجانب الأمني (احتكار القوة وطريقة استخدامها) في مشروع بناء الدولة رأيا صائبا، برغم كل المحاذير التي تحيط به، لأن ثمة مقايضة تاريخية نشأت بين الشعوب والطغاة مفادها الرضوخ للسلطة مقابل ما توفره من أمن. وربما هذا يفسر هواجس الحنين إلى النظام السابق التي بدأت تظهر بوضوح ومن قبل أكبر الكارهين له عندما كان قائما، بينما من جانب آخر ركز الأداء التعبوي، السياسي والاجتماعي والإعلامي، ما بعد سقوط النظام، على مقولات متكررة تتعلق بتأسيس الدولة، أو إعادة بناء الدولة، أو أن اختلاف ليبيا عن جارتيها تونس ومصر كونها لم تكن فيها مقومات الدولة حين قامت فيها انتفاضة فبراير، والبعض يذهب إلى توصيفها بدولة الإكراه أو الدولة الأمنية، وأمنها متعلق بالنظام الحاكم، بينما يذهب البعض؛ الذي يعتبر أن الجيش أساس الدولة، إلى أن تدخل الناتو الذي ضرب البنية التحتية للمؤسسة العسكرية والأمنية هو الذي قوض الدولة، لذلك يتحمل مسؤولية إصلاح هذا الخطأ الذي سبق وأن ارتكبه في العراق.

هذه الشروط تنطلق من فلسفة سياسية معاصرة انبثقت من تاريخ نشوء الدولة المركزية باختلاف مضامينها السياسية التي تدار بها، ومن هنا يكون الخلط أو الالتباس الذي يجعلنا مرتبكين تجاه هويتنا السياسية طيلة هذه العقود، غير أن المفهوم كما اختزل ماكس فيبر شرطيه الضروريين يوحي بأن ليبيا كانت دولة قبل سقوط النظام فيها، خصوصا أن فيبر لم يتطرق إلى طبيعة أو بنية سلطات هذه الدولة أو وصفها بالديمقراطية أو المدنية، لأن هذا ليس تعريفا للدولة ولكن توصيف لطورها الحضاري.

فالدولة لا تنتفي عنها تسمية الدولة حتى وإن كانت شمولية، أو دكتاتورية، أو حتى دينية، أو إقطاعية، طالما شرطاها المتمثلان في احتكار القوة وفي القدرة على استخدام هذه القوة لحماية من في حمى حدودها قائمان، غير أن الترف السياسي الذي بدأت أدبياته تظهر في القرن العشرين وفي ظل ازدهار الخطاب الليبرالي بدأ ينظر للعدالة وحرية الفرد كأساس لشرعية الدولة الحديثة، أو عامل المساواة والحرية ككفتين يتحقق بتوازنهما مفهوم الدولة غير الجائرة.

يذكر كولن فارلي في كتابه "مقدمة في النظرية السياسية المعاصرة" ترجمة زاهي المغيربي ونجيب الحصادي، أن روبرت نوزك، يوافق مبدئيا على هذين الشرطين لربط مفهوم الدولة القائمة بعاملي: الاحتكار، وإعادة التوزيع، لكنه يستدرك وفق رؤيته للدولة العادلة في نظريته عن العدالة بما يوحي أن هذين الشرطين لا يتوافقان مع التزامه بحقوق الأفراد، وفي صدد نقده لأطروحة، جون راولز، عن العدالة والتي يأخذ عليها كونها تعلي من شأن المساواة على حساب حرية الأفراد "وفق موروث الحقوق الطبيعية الذي يركن إليه نوزك، لدى الأفراد حق في الدفاع عن النفس وعقاب من ينتهك حقوقهم. يبدو أن هذا يتعارض مع عامل احتكار الدولة. الجانب الثاني من الدولة أنها تؤمن حماية شاملة لكل من يقطن داخل حدودها، وقد يتطلب هذا "إعادة توزيع" ما، إذ قد يعجز البعض عن تأمين الضرائب المتطلبة لتمويل هذه الحماية الشاملة".

يبدو أن هذا الجدل المتقدم يتعامل مع مفاهيم محددة لدول ما

يبدو أن هذا الجدل المتقدم يتعامل مع مفاهيم محددة لدول ما، أو الدولة الحديثة تحديدا، نموذجها المركزي في الغرب أو ما لحق بها من دول أخرى في العالم الثالث. وهذا التوصيف الأخلاقي لمسؤولية الدولة يحيلنا إلى أن مجتمعات الاقتصاد الريعي التي لا تنطبق عليها هذه الأشراط، باعتبار أن المواطن لا يسهم في تمويل حمايته وأمنه عبر الضرائب، بل أن السلطة التي تحتكر الدخل القومي وفق اقتصادها الريعي ستحتكر الأمن لنظامها وفي ظل هذه الحماية لسلطة، غالبا لا تكون شرعية، يتشكل ظل حماية للمواطن أو ما سبق وسميته "أمن الخوف"، وهنا لا يضمن الحماية وجودك داخل الحدود ولكن وجودك في ظل هذه السلطة التي ستكون تلقائيا هي حدود الوطن في النهاية وحدود المواطنة أو بالأصح الرعية.

نطرية نوزك المعدِّلة تأتي في سياق الجدل مع نظرية راولز في كتابه الهام جدا "نطرية في العدالة" وجوهر الجدل في هذه الجزئية يقوم بين شروط المساواة المنصفة في الفرص التي تضمنها الدولة العادلة عند راولز الليبرالي، في مقابل دولة الحد الأدنى التي يقترحها نوزك الليبرتاني، وما أدهشني أو آلمني في هذا المستوى من نقد الدولة هو كوننا مازلنا نتحدث عن بناء الدولة بل أن البعض يذهب إلى حاجته حتى لدولة استبدادية تضمن أمنه، والبعض الأكثر تفاؤلا يطالب بالدولة المدنية بعدما بدأت تُجلد بسياط النقد في مجتمعات أخرى كونها أصبحت عبئا على حرية المواطن أو دولة جائرة.

يحدد نوزك مهام "دولة الحد الأدنى" التي يجب أن يقتصر دورها على "القيام بمهام محدودة تتعين في حماية مواطنيها من استخدام القوة والسرقة والتحايل، وفي فرض العقود، وما في حكم ذلك" ويعتبر أية دولة تتجاوز مهامها هذا النطاق الضيق "دولة جائرة" تخترق حقوق مواطنيها.
مثل هذا الترف الفكري في توصيف الدولة العادلة يصدمنا بشدة ونحن في القرن الواحد والعشرين مازلنا نطالب بالحد الأدنى من الدولة بينما العالم يحث خطاه صوب دولة الحد الأدنى.