Atwasat

ركن العامرية... على رؤوسنا ريشة سوداء

فدوى بن عامر الأربعاء 21 يونيو 2017, 01:46 مساء
فدوى بن عامر

علّمونا في المدرسة أشياء كثيرة، منها الجميل للغاية ومنها الصادق جدًا، فمثلًا لقّنونا في حصص التاريخ أننا شعب الله العظيم لأننا أناس من نوع خاص جدًا، والدليل أننا نمشي وعلى رؤوسنا ريشة، لكنني عندما سألت أستاذ التاريخ عن نوع الريشة التي على رؤوسنا اكتفى بالنظر في أعماق عيني ولم يجبني.

وهل من المهم معرفة نوع الريشة!. سألتني نفسي. لا أدري، ربما. أتكون الريشة هي ذاتها ريشة الآلهة ماعت آلهة العدالة في الحضارة المصرية القديمة. فقد وضعت الآلهة الأنثى ماعت ريشة نعامة على رأسها لأنها ترمز للعدالة بتماثل نصفيها تمامًا. يبدو لي ذلك منطقيًا جدًا فلكي نكون شعب الله العظيم لابد أن تكون العدالة منهجنا. وعندما وصلتُ لذلك الاستنتاج سألتُ أستاذ التاريخ سؤالًا علّه يسعفني بالجواب الشافي "وهل يتواجد النعام في صحرائنا لنضع ريشه على أدمغتنا فنكون عادلين، ونحوز لقب شعب الله العظيم عن جدارة يا أستاذ.؟".

لعلنا نعثر على نعامة إن تجولنا في صحراء بلادنا فنتخذ من ريشها لباس العدالة المفقودة بعدد حبات رمال صحرائنا

هذه المرة أجابني دون أن يرفع عينيه إلى عيني وقال "لعلنا نعثر على نعامة إن تجولنا في صحراء بلادنا فنتخذ من ريشها لباس العدالة المفقودة بعدد حبات رمال صحرائنا!." وعندها فهمتُ عدم تصويب نظرته نحوي وحينها فكرتُ أنه ربما تم استجلابها من بعيد كما ربما قد فعلت الآلهة ماعت.

ومرة أخرى قلت داخل رأسي "أتراها ريشة طاووس إذًا تلك التي على رؤوسنا رمز الفخر والغرور والجمال.." وعندما أعلمتُ الأستاذ بما جال في رأسي المشاكس لا أدري لم لكنه ألقى نظاراته جانبًا وأخذ يمسح عرق جبينه وقال "ريشتنا! مرة أخرى ريشتنا.. وهل هناك طاووس في بلادنا لنتزيّن بريشه و نمشي الهوينى يحوطنا الخيلاء والجمال والتباهي من كل جانب!".

ذاك كان الدرس الأول، وأزعم أنني كنتُ طالبة نجيبة أحفظ كل دروسي بعد فهمها و أحب التاريخ جدًا وأحب أستاذ التاريخ أيضًا رغم قلة وسامته وسمك نظاراته لكنني حفظت كل ما قاله لي. أما الدرس الثاني فدار حول الزعم بأننا شعب الفروسية والنخوة والشهامة والبطولة، هذا ما حدثنا به أستاذ التاريخ عن أستاذه الذي حدثه أستاذه، والدليل أننا حاربنا الاستعمار ورمينا برجاله في أعماق البحار. و كبرتُ و جدتي تحدثني عن أيام الجهاد التي شهدتها بعينيها ولكن يا جدتي أستاذ التاريخ يقول أشياء أخرى عن أستاذه الذي حدثه أستاذه.

وأما في الدرس الثالث فقد أخبرنا أستاذ التاريخ بعد أن ألقى بنظاراته جانبًا ماسحًا جبينه بمنديل كان أبيضَ يومًا ما، أخبرنا أننا شعب الله المتدين والمحافظ بالفطرة والشجاع أيضًا. وعندما استفسرتُ منه عن أقوال ابن خلدون عن شجاعة أجدادنا في مفازتهم العظيمة تلك التي بين الزيتونة والأزهر وأنني لا أخاله قد ذكر شيئًا عن التدين بالمعنى الحقيقي للكلمة أجابني ملتفتًا باحثًا عن كوب الماء أن ابن خلدون ليس ليبيًا وبالتالي لا يعلم ما نعلمه نحن. وعندها أخبرته بما كتبه الرحالة ابن بطوطة عن أجدادنا وكذلك ما خطه المؤرخ العظيم هيرودت لكن دوى رنين الجرس معلنًا انتهاء حصة التاريخ والعام الدراسي.

وعندما كبرت تذكرتُ ما قاله أستاذ التاريخ عن فرسان القديس يوحنا وهجومهم الغاشم على أرض أجدادنا، وعندما قلبت صفحات كتاب أخبرتني حروفه عن استغاثة أجدادنا بإخوانهم في الدين فهرع إليهم العثمانيون لتخليصهم من براثن جنود القديس ليرثوا هم الأرض وما عليها فأصبح أجدادنا وأراضيهم وغنيماتهم من الممتلكات العثمانية وأصبح وطن الأجداد إقطاعية جديدة تضاف لما عندهم وبقي الحال على ما هو عليه لقرون وقرون أحلك من قرن الخروب.

ويبقى التاريخ تاريخًا بكل ما فيه وعليه وأستاذ التاريخ في بلادي أستاذًا لبعض التاريخ دون بعض

ولم أتوقف عن القراءة فأستاذ التاريخ أصرّ على استفزاز عقلي، قرأتُ عن يوسف باشا القرماللي مستذكرة الحديث الحماسي للأستاذ عن السفينة فلادلفيا وعمودها الشاهد على شجاعة اجدادنا البحرية، وقرأتُ عما كان بين يوسف باشا وأخيه أحمد باشا الذي رفض الانصياع للدولة المركزية ففر إلى شرق البلاد وحدث ما حدث بعدها وبعدها ثم بعدها!. ولا أدري لم لم يحدثنا أستاذ التاريخ عن تجريدة حبيب وما صحبها من استغاثات وهجرات ونزوح وما أشبه الْيَوْم بالبارحة ولم أنس ما قرأتُ عن هجرات قبائل بني هلال وبني سليم.

ويبقى التاريخ تاريخًا بكل ما فيه وعليه وأستاذ التاريخ في بلادي أستاذًا لبعض التاريخ دون بعض ونبقى نحن شعب الله المحافظ المتدين بالفطرة الشجاع العادل والمنصف فلا نحن نلهث وراء الكوارث تباعًا ولا بتنا نجري وراء الحروب مبتدعين الأسباب تلو الأسباب لنلقي بشبابنا في أتون حرب لا ناقة لهم فيها ولا قط.. ونبقى شعب الله الغيور الذي ارتضى الخراب القيمي والأخلاقي والانحطاط المجتمعي طالما حافظنا فيه على بعض قشور الزينة التي لا تقيم وطنًا يعيش أفراده حياة الإنسانية والرقي.

نحن إذًا لسنا شعب الله العظيم المحافظ المتدين كما حدثني أستاذ التاريخ عن أستاذه الذي حدثه أستاذه، بل نحن في الحقيقة شعب الله الفاقد للضمير والأخلاق والإنسانية.. والدين أيضًا!.

وكما كتب أديبنا المرحوم النيهوم ذات مرة "إن مجتمعنا هو الذي نراه كل يوم بأعيننا" وليس ما نسمعه فهو مجتمعنا الذي نراه بعيني رؤوسنا حتى وإن وضعنا ريشة على أدمغتنا، فقد تابعنا مأساة النساء الليبيات ومعاناتهن الحالكة الظلم في المجتمع المحافظ المتدين بالفطرة حتى التحفن ظلام السماء أمام الأبواب الموصودة والصدئة للمصارف المنهوبة والرجال يشهدون ويتشهدون ويستشهدون وعلى أدمغتهم جميعًا ريشة سوداء.