Atwasat

تماهي (الصادين)

محمد عقيلة العمامي الأربعاء 23 أبريل 2014, 01:00 مساء
محمد عقيلة العمامي

"(الصاد شين) ضنّا سيد (الصاد غين) ضنّا سيد عظم رقبه!" هذه حقيقة لا شك فيها. فمن منا لا يُقّر بتداخل وتمازج الليبيين (ص.غ) مع المصريين (ص.ش)؟ فهذا التمازج يصل حد التماهي. وكنت أظن أن هذا التداخل مقصورٌ على سكان شرق ليبيا فقط بسبب الجوار، بسبب حقائق غابت عني لأني لم أعطها حقها من البحث والتقصي، إلا أخيرًا. فرؤية التمازج بين الشعبين تتسع عندما نعرف أن شيشنق مؤسس الأسرة الثانية والعشرين، في مصر، أمازيغي من جبل نفوسه، وأن المرحوم عبدالحكيم عامر، عضو مجلس قيادة ثورة 23يوليو المصرية، ونائب المرحوم جمال عبدالناصر، اسمه الحقيقي: عبدالحكيم عامر الترهوني الإدريسي! ولا أظن أن هناك مدينة في العالم اسمها ترهونة، غير تلك الموجودة جنوب غرب طرابلس، والتي يكنى سكانها بها وإن اختلفت قبائلهم. والأدارسة دولة إسلامية قامت سنة 974م بالمغرب، وسقطت 985 وانحدرت منهم سلالات كثيرة، منها السنوسيون المعروف دورهم في التاريخ الليبي، وأيضًا الأمير عبدالقادر الجزائري الذي حكم الجزائر حتى سنة 1847م، وبالمناسبة أحفاده ما زالوا يعيشون في بنغازي حتى الآن.

لقد انتقيت هاتين الشخصيتين: شيشنق وعبدالحكيم عامر لأن جذورهما ليبية مؤكدة، ولأنهما برزا في التاريخ المصري القديم والحديث. والحقيقة أنني كنت أظن أن ليبيا- قبل تفجر البترول في صحرائها- مجرد بيئة طاردة بسبب الجفاف، أما مصر فهي بامتداد التاريخ وقدمه، بيئة جاذبة، بسبب وفرة مياهها، وخيرها. ولكن وثائق، ومصادر تاريخية كثيرة لها رأي آخر! منها كتاب حديث صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2014م للدكتور محمد أمين عبدالصمد، عنوانه "القيم في الأمثال الشعبية بين مصر وليبيا"، يتناول أمثالاً شعبية متداولة يوميًّا في ليبيا وفي مصر، والسبب أن مصدرهما واحد! وقد استعرض الكتاب أمثالاً متداولة في قرية (الغرق) بالفيوم باعتبار أنها شطر مقارنته في الجانب المصري، بينما اتخذ من مدينة البيضاء نموذجًا للجانب الليبي، وإن كان قد استعار مثلاً من سلوق يصف شدة العطش: (عطش أرنب سلوق)، ومثلاً آخر من غرب ليبيا متداولاً باتساعها: (يا تاجورا ريتيش عمر؟) ومقولة المرحوم المبروك البسيوني (بنغازي رباية الذائح).

الكتاب في الحقيقة يضم أمثالاً بليغة كثيرة، تعكس مدى تطابق مفردات اللهجتين، ولعله من المفيد الإشارة إلى ما سمعته من المرحوم الدكتور طه حسين، في حديث إذاعي، عندما أجاب على سؤال يتناول اللهجات الأقرب إلى اللغة العربية، فقال: "إن لهجة أهل برقة هي أقرب اللهجات إلى اللغة العربية" وبالمناسبة، قرأت له في الطبعة الأولى من كتابه (الأيام) أغنية قال إنه كان يسمعها من والدته وهي تطحن طحينها، تقول: (اللي يودني نودا ونا بالود زايد * واللي يصدني نصدا نين يحطوا اللحايد) وهي تتردد كثيرًا في ليبيا، في المناسبة نفسها، وأذكر أنني سألت المرحومة والدتي عنها فأكدت لي أنها من أغاني الرحى المتداولة. ولا ينبغي أن نغفل البحث الرائع الذي أعده المرحوم الدكتور علي الساحلي، الذي قارن فيه الشعر الجاهلي، بأغاني العلم المعروفة لنرى أنها متطابقة إلى درجة العجب.

والكتاب الذي أشرت إليه يقدم تفسيرًا مقنعًا لهذا التطابق، وهو أن القبائل الموجودة في الفيوم مثلاً، لها روابط متصلة ومتواصلة مع قبائل شرق ليبيا، وكنت أظن، إلى عهد قريب، أن قبائل أولاد علي، مثلاً، تعود إلى أصول ليبية، غير أن الواقع يقول إن ما يوجد في ليبيا منها هي من تعود أصولها إلى من توجد في غرب مصر. لأنها، وكذلك قبائل كثيرة ليبية تعود أصولها إلى قبائل عربية نزحت من الجزيرة العربية بسبب سنوات قحط وجفاف شجعتها الدولة الفاطمية حتى تحرم القرامطة من الدعم البشري، فلا تقوى شوكتهم، منهم: "السعادي وبنو هلال وأولاد علي وبنو عوف وبنو شماخ وبنو ذياب وبنو زغب وبنو حمد وبنو محارب وأولاد سلام والهضادي وبنو عونه وبنو حيان الكعوب وأبو الليل والخونة والشبالى والمحاميد" وفي العصر الحديث عمل محمد علي على توطينهم على الأطراف الخارجية لوادي النيل.

وفي الفيوم، مثلاً، يستوطن عددٌ كبيرٌ من القبائل الكبيرة المعروفة في ليبيا منها: "البراعصة والعبيدات والحرابي والعمايم والقطعان والحاسة والقذاذفة والصبيحات وترهونة والعوامي والحبون والإشراف وأولاد فايدة"، ذلك يعني أن القبائل العربية استقرت في مصر، وأن كثيرًا منهم واصلوا هجراتهم بامتداد عمق الأراضي الليبية، ومنهم مَن وصل تونس. كثيرٌ منهم عادوا إلى مصر. وآخرون استقروا في ليبيا، جميعهم من أصول عربية، الموجودون في الفيوم، مثلاً، لم يغادروها، ومنهم مَن غادرها، واستقر في ليبيا، مع الليبو والتحنو والمشواش وغيرهم، وما زالت بعض البطون العربية متواصلة، ومترابطة وتتزاور حتى وقتنا هذا؟ أليس هذا هو التماهي الذي أتحدث عنه؟ أليس (الصاد.ِغين) امتداد (الصاد.شين)؟