Atwasat

الأراضي المنخفضة: تكبري وتنسي

سعاد سالم الثلاثاء 09 مايو 2017, 10:46 صباحا
سعاد سالم

أبدأ من الصفر، كأنني لم أدرس ولم أعمل يوما، في هذا البلد الذي لم يترك شيئا للصدفة، ولكن سأبدأ أرى السنوات القادمة عوضا عن التخمين.

يتعامل موظفو الداخلية الهولندية مع القصص التي يسمعونها يوميا بوجوه لا تُقرأ، لا شك تدربوا على هذا. جلس المحقق قبالتي وبدأ في طرح الأسئلة. كنت أكرر الأجوبة حينما انخلع قلبي من صراخ أحدهم. كان في الغرفة المجاورة. عرفت لاحقا أنه بُلّغ برفض طلبه اللجوء، ولكن رجل الداخلية لم يتحرك في وجهه أي عصب. لابد أنه أخبر الآلاف بأنهم مرفوضون، تلك الأيام الأولى التي نكست فيها روحي عشرات المرات، كان كل إجراء نمضي فيه أجر حزني معي فيما أفراد باقي الجنسيات يضجون بالمرح، كنت أحاول تفهمهم حينما نجلس جميعا أمام غرفنا نراقب من جدار الزجاج الطائرات في حركة هبوط وطيران لاتتوقف في مطار سخيبهول.

قبل ذلك كنت قابلت السيدة سينو محاميتي. الحرس الملكي في المطار بمستوى تعليم متواضع ولكن كلماتهم نافدة. تعزيني سينو، لكنه حكم عليّ ولم يُترك لي خيار حينما ألغيت تأشيرتي. هكذا تلوّت كلماتي من الوجع. سعاد وصلتُ مع زوجي من أصل عربي إلى واشنطن في المطار عطلوا زوجي بسبب اسمه العربي. خاطبت الموظف بأنني محامية وأن ما يقوم به غير قانوني. نظر إلي وقال من وسط ابتسامة لئيمة. اصمتي أو أوقفك بتهمة عرقلة عملنا، وهكذا ركزت في قصتي الشخصية كما طلبت محاميتي الرفيعة الجادة المترنحة بكعبها في الممرات في مواعيدنا المتقاربة.

سيبدأ مفهوم الحرية الذي اعتقدته هو كل جبل الجليد يتآكل كلما تقدمت مراحل الإندماج

رأيت كيف أن ليبيا المليون وستمائة كيلو متر لا يراها أحد. في صف اللغة بدرونتون كان على خيشا المعلمة الهولندية أن تنظر في الخارطة المعلقة على الجدار الخلفي للصف لتعرف أين تقع بين مصر وتونس. أعدت هذا في كل مكان تقريبا. طبيب العائلة في زيارتي الأولى له قال: القذافي كان جيدا. الطبيب أرجنتيني هولندي. بضعة أشخاص من أصول عربية أو أفريقية يدلون بهذه المعلومات. بلاد غنية. يتبعونها بالسؤال ماذا فعلتم؟. في السفارة المصرية بلاهاي الموظفة أم طارق قالت وعيناها تحضنانني: عشت في سبها سنوات الليبيون طيبون، وأضافت، أنا بحبكو جدا. مساعدة معلم اللغة في مدرستي بروتردام تهلل وجهها وقالت: خالتي كانت هناك، إنها تحب ليبيا للغاية، سارة من أصل بولندي. المعلمة خيشا بعدما رأت ليبيا فوق الخريطة بتعرجها الجميل الذي يشابه القلب لم تقل شيئا. إذاً لا بوابة أفريقيا ولاذهبها الأسود ولاشاطؤها الأطول ولا من يحسدنا. لماذا أنا حزينة أمام خيشا. القذافي نفسه قال: من يعرف ليبيا؟. حين تقولون ليبيا يقولون ليبيرا لبنان. كان الرجل يفاخر أنهم لا يعرفون ليبيا لكنهم يعرفونه. إذ ظللت أردف اسمه كأداة تعريف حينما يستعصي تصور أحدهم للخارطة. أخذ البحث من موظفي الداخلية وقتا ليعرفوا ماذا يحدث في بلاد قتلت دكتاتورها. أليست بلادا آمنة الآن لأمثالي؟. لا هذا ما وجدوه بعد أربعة أشهر من البحث.

سيبدأ مفهوم الحرية الذي اعتقدته هو كل جبل الجليد يتآكل كلما تقدمت مراحل الإندماج، وسيسمم الغضب يومياتي، صندوقي مملوء عن آخره بالرسائل بالمواعيد وبالفواتير، أي خطأ أو تأخير سيسمح للبيرقراطية بأن تفسد حياتي التي فسدت أصلا كما رأيتها حينها. في تلك البدايات الزلقة لم أتخلص من الشعور بأن كل الإجراءات الإدارية والمالية والقانونية وعلى ضرورتها تحامل شخصي.

نجوت من الأذى وفقدت حريتي. هكذا بدا لي الأمر حين قابلت كارلا وسمعتني فتحت عينيها الضيقتين قدر جهدها وقالت كيف هذا؟. هناك كنت أقاتل من أجل حريتي. هنا أنا فقط أتبع اليافطات. كعادة الهولنديين لم تتفلسف، ولم تعطني نصائح، ولم تغضب لهولنديتها ولم تقل إني عقاب ليبية جيت لبلادها كما نفعل هناك مع كل الجنسيات، لو أبدى أحدهم رأيه فينا. تركتني للأيام تعلمني لاحقا كيف أرى زوايا للحرية.

كنت اقرأ عنها فقط. تلك التي تبدد القلق الشخصي وتبقيك ثابتا في محيطك، وعلى وزن ما ترد به جدتي بثقة على بكائي من خدوشي وأنا صغيرة "تُكُبري وتَنسي"، الصديق الذي عاصر تحطمي في يوليو 2014 قالها واثقا أيضا: تاخذي الإقامة وتنسي.