Atwasat

ألماس أسود كقلوب الأشرار

محمد عقيلة العمامي الإثنين 17 أبريل 2017, 01:42 مساء
محمد عقيلة العمامي

تعود معرفتي بـ "الألماس الأسود" إلى سنة 1977 وتحديدا في مطلع شهر مارس. كنت حينها في إيطاليا والتقيت بالمرحوم الدكتور رؤوف بن عامر في مدينة بولونيا التي تخرج في جامعتها، ويعرفها مثلما أعرف أنا شوارع وأزقة "وسط لبلاد" في بنغازي. ودعاني أن نتناول العشاء في مطعم يعرفه منذ أن كان طالبا.

إن دعوة إلى عشاء في إيطاليا، رفقة مجموعة تعني أن تقضوا ثلاث أو أربع ساعات في المطعم حول منضدة ممتلئة بالأطباق والشراب، ويظلون يتحدثون تقريبا عن كل شيء، أكثر مما يأكلون أو يشربون. تلك الليلة كان رفقة الدكتور شخصان إيطاليان أحدهما كان زميل دراسته والثاني من تلك الشخصيات النهمة، التي تعشق الأكل وتستطيع أن تحكى لك عنه وتصفه مثلما يصف الخبير المتمرس لوحة جميلة لحديقة ورود لدرجة يجعلك معها تشم روائحه. كنت حينها أجاهد أن أتحدث اللغة الإيطالية ولذلك كنت أنصت بتركيز شديد، محاولا ألاّ تفوتني كلمة أو وصف، وإن فاتتني أهز لها رأسي وكأنني أعرفها لأنني، في الغالب، سأعرفها من خلال سياق الحديث.

تطوع عاشق الأكل هذا باقتراح طبق (السباجتي) مع (الترتوفو Tartufo) مبينا أنه الموسم الحقيقي له، كما أنه الموسم أيضا لنوع من البط البري. وافقوا جميعا، فهززت رأسي بالموافقة من دون أن أعرف ما المقصود بالترتوفو. ومن دون أن أعترف لهم بذلك. وجاء الطبق سباجيتي أبيض فائحا برائحة شهية، تعلوه شرائح مبشورة كجبن (البرماجانو) ولكنها ليست كطعمه، إنما طعم هائل كأنه بندق متبل يترك عطرا وطعما في الحلق ما لم يتركه طعام آخر في حلقي من قبل. ومن قبل أن يأتي النادل بأطباق البط، عاد إلينا بصحن كبير به مزيد من سباجيتي الترتوفو، عارضا الإضافة لمن يريد المزيد. رفعت عينيَّ متبسما ومستجديا أن يزيد طبقي منه، تماما مثلما فعل الرجل النهم ذو البطن الضخم، في حين شكره الدكتور رؤوف ورفيق دراسته. أعترف أنني تناولت الترتوفو بمتعة، غيبت عني نصف الحديث.

الحياة لن تتوقف ومعايشتها جزء مهم للغاية في تواصلها. فهل فهمت يا صديقي؟

ثم جاء النادل بطبق البط المحمر ويعلوه الترتوفو المبشور وبجانب قطعة البط كرة قريبة الشكل من الفجل الإفرنجي ولكنها سوداء. وكان مع النادل صحن به ترتوفو مبشور، طلب منه الرجل الضخم ذو البطن المستديرة الكبيرة، مشيرا بزيادة الترتوفو بيده الضخمة البيضاء الممتلئة بالنمش الأسود، ثم نظر إلى فهززت راسي طالبا المزيد. عندها نظر إلى الدكتور رؤوف ضاحكا وقال: "نسمع بها حتى رأيتها: " أيش يشبع الجمل من الترفاس؟" فهتفت بالعربي وبصوت عالٍ: "ترفاااس! أول مره آكل. أسمع به ولكنني لم أره من قبل. يقولون أنه متوفر ومعروف عندنا في ليبيا، وأنه الأجود". أجابني الدكتور: "لا.. لا هذه ليست حقيقة. أجوده في فرنسا أنواعه النادرة غالية جدا، متوسط سعر الجيد منه في فرنسا يصل الكيلو منه حتى 1000 دولار، ولهذا أطلق عليه الفرنسيون اسم الألماس الأسود ويكثر في جنوب غربها".

واستمر الحديث عن الترفاس طوال قعدتنا وعرفت أنه نوع من الفطر، وحبة الجيد منه تكون كبيضة الدجاج ولكنها سوداء مثلما قيل عنها: "سوداء كقلوب الأشرار". أما أطرف سبل الحصول عليه هي أن يعودوا قشوره لإناث الخنازير، لأن حاسة شمها اقوى من حاسة الذكور، فتتعود علي رائحته ثم يأخذون الأكثر خبرة منها إلى أماكن نموه فتنطلق بمجرد الوصول إلى المكان المتوقع توفره به وتحفر بقوائمها مستخدمة ( خنفيرتها ) في الشم إلى أن تصل إليه، فهو في الغالب مدفون في الأرض بعمق يتراوح من 15 إلى 25سم وقد تصل الحبة منه حتى كيلو جرام. ومن الاستفادة القصوى منه وتوفيره، يضعون بيض الدجاج في سلة معلقة مع الترفاس ويتركونها طوال ليلة ليطهوا منها شكشوكة فائحه برائحته الزكية.

الأسبوع الماضي أهداني صديق حبات منه كان قد أحضرها من نواحي سرت وحكى لي عن أنواع كثيرة منه في وسط ليبيا وكذلك في الحمادة الحمراء. ولكنني لم أعرف كيف أعد منه وجبة. فبحثت ووجدت وصفات كثيرة لإعداده وطهيه، فطهوت منه ما يشبه طبيخة البطاطا، وكانت وجبة رائعة كتلك التي قيل أن نابليون أنجب ابنه الوحيد من بعد تناول ديك رومي مطبوخ مع الترفاس!. اسمة في اللغة العربية الكمأة ومعروف في السعودية بالفقع، وبالعبلاج في السودان، أما في ليبيا والجزائر وتونس بالترفاس. وهناك من يربط بين نموه وبين الرعد فيطلق عليه بنات الرعد وهذا ليس حقيقيا لأنه فطر ينمو على جذور الأشجار كشجر البلوط.

أما لماذا كتبت هذا الأسبوع عن الترفاس لأوكد لصديقي "اللدود" أن مواضيع الرأي ليست "حنا للسيف فقط " ولا فوضى الكتائب ولا كثرة حكوماتنا واجتماعاتنا التشاورية. الحياة لن تتوقف ومعايشتها جزء مهم للغاية في تواصلها. فهل فهمت يا صديقي؟.