Atwasat

التحليل الاستاتيكي لأزمة ديناميكية: تكريس العداء

إدريس بن الطيب السبت 19 أبريل 2014, 12:59 مساء
إدريس بن الطيب


مع أول استكشاف لطبيعة الخارطة السياسية الليبية وتجليات الأزمة من خلالها، يمكن -بكل وضوح- ملاحظة الحالة الديناميكية شديدة الحيوية التي تتميز بها هذه الخارطة، وذلك من خلال انفتاحها على كثير الاحتمالات في التطور والتشكل، مثلها مثل أي نشاط سياسي هو في حقيقته كائن حي!.

ودون أدنى حاجة إلى سرد تفاصيل ملامح هذه الخارطة خلال السنوات الثلاث الماضية، والتي تبلورت- منذ ما بعد انتهاء الحرب مباشرة- إلى حالة اصطفاف أيديولوجي وجهوي ومناطقي وحزبي، ميّز ملامحها خاصة بعد أول انتخابات سياسية كانت الأولى منذ أكثر من نصف قرن، وفي أجواء غير مؤهلة لتقبل حالة التنافس الديمقراطي، وهي أجواء الصدمة بعد الحرب، ونشوة النصر عبر العنف، الذي هو -كما قال غاندي- في محصلته هزيمة!

لقد قفز الليبيون إلى حالة التنافس السياسي دافنين حالة التوافق التأسيسي المطلوبة في قبر عدوهم قبل أن تنتهي الحاجة إليها، وتكونت مجموعات سياسية متنافرة ومتحاصصة في أجواء من السعار الذي يخلو من أي حس سياسي براغماتي، وتأصلت في السلوك السياسي للنخبة الحاكمة حالة الاستحواذ، وذلك بمجرد قبولهم -بما في ذلك القوى التي فازت في الانتخابات- مبدأ المحاصصة في مؤسسات الدولة التي ما زال عليها أن تبني، متجاهلين تمامًا الحقيقة الساطعة المتمثلة في أنه -بهذا السلوك العدمى الغبي- لن يكون هناك ما يمكن اقتسامه من (دولة) إذا كانت لا تزال في رحم الغيب، وأنه عليك أن تعد الوجبة أولاً قبل أن تبدأ في تقسيمها! هذه الروح العدمية في ممارسة السياسة والتي ميَّزت كل القوى السياسية من دون استثناء وبدرجات متفاوتة، ارتكزت على آلية: تصنيف الخصوم في مواقع محددة، بحيث يتم التعامل معهم لا على أساس أدائهم السياسي المحدد في القضية المحددة بل على أساس التصنيف الدائم الثابت والاستاتيكي! ولا أعتقد أن ثمة ضرورة للإشارة إلى أن هذا الفهم يتناقض مع ألف باء علم السياسة، حيث إن النشاط السياسي- كغيره من الأنشطة البشرية- هو نشاط ديناميكي حيوي متغير ومستجيب للظروف الموضوعية والذاتية، وليس كتلة ثابتة جامدة إلا في مخيلة الأيديولوجيا، كما أن هذا التصنيف القديم نسبيًّا (-2012)- قد بدأ يصطدم ببعض المتغيرات السياسية والتمحورات الجديدة، والتي لم تجد صدى لها في تحليلات النخبة سواء السياسيين أو حتى المحللين والمراقبين.

لقد قفز الليبيون إلى حالة التنافس السياسي دافنين حالة التوافق التأسيسي المطلوبة في قبر عدوهم

فالتصنيف ثابت، وكل تجمع مصنف في موقع عليه أن يبقى فيه إلى الأبد، ولن تجدي أية إشارات يرسلها أي طرف تشير إلى تغيّر في الموقف، بل سيتم تفسيرها على أنها من الألاعيب المؤامراتية بل وحتى الاستخباراتية، وتجاهلها تمامًا والتشكيك فيها! وكمثال بسيط على ذلك، فالصراع بين الحكومة الانتقالية والمؤتمر الوطني العام حول الأداء والصلاحيات، كان أبرز ما ميَّز السنتين الماضيتين، لكن الأزمة أنه لم يتم التعامل مع هذا الصراع على أنه صراع ديناميكي قابل للتطور إلى وضع غير الذي هو عليه، بل حكم التعامل معه منطق الخصومة الثابتة التي لا تتغير، وبذلك فقد كان هناك تجاهلٌ تامٌ لكل بوادر تطور الخلاف بينهما إلى حالة جديدة أقرب إلى (الانقسام) في رؤية عملية بناء الدولة، ولم يتم تحليل الأمور بناء على المعطيات السياسية (للحظة) بل تم بناء على التاريخ! المواطنون العاديون يضعون بيض الحكومة و"المؤتمر" في سلة واحدة انطلاقًا من ضيقهم وتذمرهم المبرر من سوء الأداء السياسي لكليهما، لكنهم لا يتلقون عونًا من أي نوع من قبل النخبة السياسية أو المحللين السياسيين لمساعدتهم على فهم تطورات الصراع واتخاذ الموقف الملائم منه، فبيان غات- على سبيل المثال شكَّل نقطة مهمة في إيضاح مدى التباين في التعاطي السياسي مع عملية بناء الدولة بين الحكومة والمؤتمر، لكن محللينا وسياسيينا لم يترددوا في انتقاده– من داخل منطق الاصطفاف- على أنه بيانٌ لم يحدد الأمور كما يرغبون بها، وأنه مجرد مناورة من نفس القوى التي هي (كلها كيف بعضها)، بل وحتى عندما اعتذر الثني عن تشكيل الحكومة معللاً ذلك بأسباب واضحة ومكتوبة (بقعر نخلة) كما يقال لم يتردد مثقفونا ومحللونا في اعتبارها (ألاعيب) وحركات للتضليل!، بل حتى الأحداث المتلاحقة والصراعات والتصفيات داخل الحركات الجهادية، لم يلق لها المحللون بالاً! إن النخبة السياسية، بكل مكوناتها التي أشرت إليها، ترتكب– بهذا التحليل الاستاتيكي المحنط- خطأ الإساءة إلى المهمة الموكلة لها عبر قصور أدواتها في فهم (المتغيرات) ركونًا إلى وصفة (ثابتة) وقديمة في تصنيف الخارطة!


والمشكلة العويصة التي نعانيها أيضًا من مثل هذا التحليل المحنّط هي العمل على استدامة حالة العداء والاصطفاف السياسي، التي لا تخدم حتى مصالح المتمسكين بها، وتؤدي إلى أن نضيع فرصًا (واقعية) لتبنى حالة (التغير السياسي) التي تطرأ على الأطراف بسبب (ديناميكية) الصراع!


التصنيف المحنّط عداوات دائمة، ومحنطة أيضًا!! انزعوا نظارة الاصطفاف، واستخدموا (العقول) لقراءة المتغيرات!