Atwasat

حرب نهاية العالم

سالم العوكلي الأحد 26 مارس 2017, 09:49 صباحا
سالم العوكلي

"أعتقد بأننا رأينا نهاية طراز أو طريقة معينة لإدارة الأمور السياسية. أعترف بأني قد شخت وبليت. كنت أفضْلَ أداءً في النظام القديم، حين كانت القضية هي أن تحمل الناس على اتباع عادات وممارسات متوطدة، والتفاوض والإقناع واستخدام الدبلوماسية والكياسة. لقد مضى وانتهى كل ذلك اليوم. لقد دقت ساعة العمل والجرأة والضراوة، وحتى الجريمة. ما يلزم الآن هو فصل للسياسة عن الأخلاق."

هذا ما يقوله البارون في رواية "حرب نهاية العالم" لماريو بارغاس يوسا، وهي الرواية الملحمية التي ترصد الصراع بين الجمهوريين والمحافظين الملكيين في البرازيل نهاية القرن التاسع عشر، وعلى خط الصراع يدخل من يسمون "الأنصار" وهم مجموعات متشددة من الفقراء ذوي الأسمال البالية الذين يحتشدون حول "المرشد" في مواجهة "هراطقة" التاج الإنجليزي، ودعاة الجمهورية التي يسمونها "المسيح الدجال" أو "الشيطان" ويخوضون ضدها معركة يسمونها حرب نهاية العالم.

تكتب هذه الرواية التاريخ الذي لم يكتب قط، وتتقصى عبر تلك التفاصيل الميكروسكوبية فكرة التلاقي بين الثوري والمتشدد الديني، بشكل يربك المترجم ، أمجد حسين، الذي يتساءل في تصديره للرواية: "هل تحاول الرواية المواءمة بين الثورية الفوضوية (في آخر القرن التاسع عشر) والتعصب الديني المنطوي، في جانب منه، على رفض الظلم؟ هل المواءمة جادة أم ساخرة؟ إن في الرواية عشرات القرائن على هذا ونقيضه في آن واحد".

بعد انتهائي من قراءة هذه الرواية الضخمة التي ترصد صراعا يشبه في جوهره هذا الصراع الذي حدث، وما يزال يحدث في المنطقة بعد ما يسمى بالربيع العربي، أصبت بأسئلة مشابهة، أولها يتعلق بالماهية التي يلتقي فيها الثوري الغنائي، حتى وإن كان ملحدا، بالمتعصب دينيا حد الضراوة. لعل فكرة الخلاص الممسوس بها كلاهما، ووسواس الحقيقة والعدالة والمساواة بين البشر، وتنميط الجنس البشري الذي من الممكن أن تستوعبه فكرة واحدة للخلاص، أو طريقة واحدة للعيش، مثلما يحدث في ممالك النحل أو النمل، تقف كلها وراء هذه التماهي الذي يجعل الموت عقاب من يشوش على هذا الوجد. لكن السؤال الأكثر جسارة الذي يراودني الآن: هل الدينيون هم من يسرقون الثورة أم فكرة الثورة تعود من تيهها في التاريخ إلى حضنها الأصلي؟.

ثورة الفقراء هي التي تحرك وجد الثوري، والفقراء هم ذخيرة المرشد المبشر بالخلاص، وفي قلب هذه المفارقة الحادة تتجاور النقائض أو الأضداد لتخلق الظاهرة الملتبسة

يقول الصحافي والكاتب، إريك وولبيرغ، في مقاله المنشور بموقع، ميدل إيست أون لاين، بعنوان "الطهارة الثورية، من تروتسكي إلى البغدادي". : "قوبل إعلان زعيم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، أبي بكر البغدادي، عن قيام حضارة إسلامية جديدة على الأراضي التي ازدهر فيها الإسلام لأكثر من ألف عام مضت، بنوع من الترحيب من الكثير من المسلمين الغاضبين، الحريصين على رؤية نهاية الهيمنة الأمريكية-الإسرائيلية في المنطقة. وهو ما يذكرنا بردود الفعل المتولدة عن الثورة الروسية عام 1917، حينما قامت مجموعة صغيرة من الثوار بالاستيلاء على السلطة وأعلنت الدولة الشيوعية، وسرعان ما أصبحت عالمًا متحدًا تحت عقيدة إنكار الذات الجديدة..... وتعد أوجه التشابه والتناقض بين الإسلاميين مثل جماعة الإخوان المسلمين ضد السلفية أو تنظيم القاعدة، وبين الحركات الثورية اليسارية في القرن العشرين مثل الشيوعية ضد التروتسكية أو الماويين غريبة ومفيدة على حد سواء".

هل تبدو المقارنة هنا مخلة بالحقيقة التاريخية رغم بعض الشواهد عليها؟ أليس من التبسيط أو الشطط، المقارنة بين مشروع يستمد رؤاه من البحث المضني في تاريخ الصراع البشري، ومشروع يستمد رؤاه من المعبد؟.
هذا ما تتجاوزه رواية يوسا وهي تحفر عميقا في التكوين الداخلي لشخصياتها المفصولة منهجيا عن الواقع، والتي غالبا ما تكون جاهلة بما تفعله، بل إن هذه المشاريع تتحول في النهاية إلى بعض اقتباسات مختزلة وعالية الصوت، ولافتات، وشعارات رنانة، وهتافات عنيفة، ورايات مرفرفة فوق فِرق الإعدام. وجميعها تتخذ من الطبقة التعيسة والأمية أو بسيطة التعليم ذات الأسمال البالية، أدواتها المطيعة حد الورع لدرجة أن الموت يصبح لديها ضرباً من اللذة.

وهذا الدافع هو ما جعل الثوري المثالي القادم من سكوتلندا، غاليليو غال، في رواية يوسا، يدفع حياته ثمنا للوصول إلى مدنية كانودوس التي يقاوم فيها المرشد وأتباعه المتعصبون حملات الجيش الجمهوري بضراوة، مجردا تلك الثورة من هالتها المسيحية المتشددة محولا إياها إلى ثورة فقراء من أجل العدالة، مبررا للبارون رغبته الجامحة في الالتحاق بهم "أريد أن أموت في سبيل أفضل ما فيّ، من أجل ما أؤمن به، وما ناضلت من أجله. لا أريد أن أختم أيامي أبله سخيفاً. يمثل هؤلاء التعساء المساكين أجلّ ما في هذه الدنيا: معاناة تسمو فتثور. في وسعك أن تفهمني رغم الهاوية التي تفصل بيننا. هتفت البارونة: لكن لأي غرض؟ سيعدّك "الأنصار" من الأعداء وسيقتلونك. ألم تقل أنك ملحد فوضوي؟ ما علاقة كل ذلك بكانودوس؟.أجاب غال: بيني وبين الأنصار كثير من الأمور المشتركة، أيتها البارونة، وإن كانوا لا يعلمون بذلك".

ثورة الفقراء هي التي تحرك وجد الثوري، والفقراء هم ذخيرة المرشد المبشر بالخلاص، وفي قلب هذه المفارقة الحادة تتجاور النقائض أو الأضداد لتخلق الظاهرة الملتبسة، غير أن اختزالنا لمثل هذه الظاهرة تحت عنوان سينمائي (الإرهاب)، والتعامل معها كحالة معزولة أو فقاعة أنتجتها الحرب الباردة، لا يساعد في علاج الظاهرة بقدر ما يُسهّل للمستفيدين منها فكرة استثمارها.

يقول وولبيرغ في مقاله: "يشير منتقدو الإسلاميين إلى استعدادهم للموت من أجل معتقداتهم كدليل على أنهم عدميون، ويقولون إن “القاعدة تفتخر أنه بينما نخشى الموت، فإنها تتمناه، وأنهم لا يحترمون الحياة، حتى حياتهم هم أنفسهم”، ولكن هذا الاستعداد للموت من أجل المعتقدات كان دائمًا نهج المؤمنين من جميع الأديان في جميع العصور، كما كان يفتخر به الثوار اليساريون، فكان شعار فيدل كاسترو “الحرية أو الموت”، وكذلك ثوار الولايات المتحدة أمثال باتريك هنري".

تروج الآن أراء عديدة، لا تخلو من وجاهة، بكون داعش التي احتلت مساحة في العراق تعادل المملكة المتحدة، هي خلطة بين القاعدة، وبقايا حزب البعث المجتث في العراق، وبعض أعضاء الحزب الشيوعي العراقي، الكادر، إضافة إلى بقايا من جيش وفدائي صدام المدربين جيدا. لذلك تملك هذه القدرة على الحشد والتكتيك العسكري وعلى الاستيلاء على الأرض والبروبغاندا والإدارة، التي هي مزيج من كل هذه الخبرات، وبينهم "كثير من الأمور المشتركة وإن كانوا لا يعلمون".

إنها ظاهرة تنمو جيدا في قلب التناقضات الحادة مع الجدران التي بدأت تنهض بين الهويات في زمن القرية الكونية، وتتخذ من وسواس الهوية ورهاب الآخر وسيلة استقطاب أو دعاية انتخابية. وهل ظاهرة اليمين المتطرف، المصاب بوسواس الآخر، التي بدأت تحشد أتباعها من الناخبين في أمريكا والغرب الحداثي بعيدة عن هذا السياق؟.