Atwasat

كسر الاحتكار وجبرُه

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 26 مارس 2017, 09:33 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

من نافلة القول أن الإعلام يمثل سلاحا بالغ الخطورة، لما له من تأثيرات عميقة، بعيدة المدى، في تشكيل الذهنيات الفردية والذهنية الجماعية على المستوى الوطني والمستوى العابر للحدود، حد أن الصحافة، أداة الإعلام الأسبق والرئيسية، سميت "السلطة الرابعة" إلى جانب السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وبما أن الدول الغربية، الاستعمارية منها على الأخص، هي مسقط رأس وسائل الإعلام الحديثة والعصرية، كان طبيعيا أن تسيطر أدواتها الإعلامية على فضاء البث المعلوماتي العالمي وتوجهه وفق مصالحها وطموحاتها في العالم. فعلى الصعيد الإخباري هي التي تتسقط الأخبار وتختار منها ما هو جدير بالإشاعة لمردوده الإيجابي على الدولة التي تتبعها، وما يتوجب التعتيم عليه لمردودها السلبي في نفس الاتجاه. فوسائل الإعلام الغربية هذه تركز في أخبارها عن الدول النامية، والدول الاشتراكية إبان ما عرف بالحرب الباردة، على الفساد السياسي والإداري وحركات المعارضة والكوارث الطبيعية غاضة الطرف عما تعانيه هذه البلدان من صعوبات أسهم الغرب الاستعماري في نسبة عالية من بنيتها، وعن أية ملامح إيجابية يحققها هذا النظام السياسي أو ذاك في هذه البلد أو تلك من هذه البلدان.

تشير التقارير إلى أن ما نسبته حوالي 90% مما يبث إلى العالم من أخبار ومعلومات يصدر من لندن وباريس ونيويورك، وأن ثمة أربع وكالات أنباء طاغية في هذا المجال هي: الآسيوشييتد برس واليونايتد برس الأمريكيتان، ورويترز، البريطانية، وفرانس برس الفرنسية. ما يعني كون التدفق الإعلامي وحيد الاتجاه. وتوضح الدراسات المختصة أن مصطلح "التدفق الإعلامي الدولي" أخذ في الظهور مع أربعينيات القرن الماضي للدلالة على سيلان الأخبار من دول المركز إلى دول الهامش، أو ما يسمى بالتدفق الرأسي. لكن الاهتمام الفعلي بما يشكله هذا الوضع من أزمة في العلاقات الدولية والعلاقة بين الشعوب تكاثف في سبعينيات القرن العشرين إلى الحد الذي دفع منظمة اليونسكو المعروفة إلى تشكيل لجنة خاصة لدراسة هذا الاختلال سنة 1977. وانتهت اللجنة من تقريرها سنة 1980(عرف بتقرير ماكبرايد، نسبة إلى اسم رئيس اللجنة). وكان التقرير عادلا وتضمن خطة إصلاح، الأمر الذي حدا بالولايات المتحدة الأمريكية إلى رفض محتوياته ومهاجمته ومهاجمة منظمة اليونسكو بشكل عام.

لكن الاحتكار والتحيز الإعلاميين ليسا مقتصرين على دول "المركز" بل هما نافذان أيضا على مستوى دول "الهامش". أي دول الجنوب. فالأجهزة الإعلامية لهذه الدول الأخيرة تقطر الأخبار، وحتى تزيفها، منتقية منها ما هو للاستهلاك المحلي وما هو للاستهلاك الخارجي، بحيث يتفق مع ممارساتها السياسية والاجتماعية، متجاهلة ما يمكن أن يسيء إليها. إلا أنها تفعل ذلك بمستوى متدن من المهنية ودرجة عالية من السذاجة، ربما لتدخل الدوائر العليا من النظام السياسي في توجيه الأخبار وقلة الاعتماد على الخبراء والمهنيين الإعلاميين.

بيد أنه في ما يقارب الثلاثة عقود الأخيرة اضطرب الوضع وتغير. إذا كُسر هذا الاحتكار، في المركز والهامش، بسبب وسائل الاتصال الحديثة المتمثلة أساسا في الفاكس والهاتف النقال والانترنت. وعبر الهاتف النقال (من حيث هو أداة تصوير) والانترنت أصبح بإمكان أي شخص، تقريبا، أن يكون مصدرا إخباريا ومعلوماتيا. ورغم كل الشوائب والتشوشات والانحيازات، وحتى الاختلاقات وانعدام المسؤولية، الموجودة فعلا في هذا الخضم الإخباري والمعلوماتي، إلا أن الاحتكار كسر فعلا وأصبح الأمر مقلقا لحكومات دول العالم جميعا.

هناك توقعات الآن بأنه ستتم السيطرة الكاملة على ما يبث عبر الانترنت ويستعاد الاحتكار من جديد. ولقد شُرع في اتخاذ إجراءات المراقبة والضبط والتتبع لما يبث عبر الانترنت من قبل حكومات دول الضفتين. ونكتفي هنا بإيراد أمثلة عما يقوم به "آباء" الانترنت. فإدارات:
"ياهو و AOL وغوغل- مهيمنة على القرارات المتعلقة بما يمكن ظهوره على الشبكة" و"وحدها غوغل تتحكم في 63في المائة من أبحاث الإنترنت. وعلى صعيد تقرير ما يمكن وما لا يمكن نشره على الشبكة وإدراجه في أبحاثها، ومدى قابلية الامتثال لرغبة الحكومات التي تفرض الرقابة، تتخذ غوغل قرارات بالغة الأهمية والخطورة بالنسبة إلى حرية التعبير"*.

ويضيف الكاتب في هذا الصدد:
"أطلق إيلي باريزر Eli Pariser من موقع موف أون (MoveOn) تحذيرا من خطر أشد مكرا: آليات غوغل وفيسبوك للفلترة (للغربلة والنخل) تنشيء "فقاعة فلترة" حولنا؛ فالحسابات المستخدمة من هذه المواقع التي "تشخصن" تجربتنا الشبكية تعمد عمليا إلى جعل جزء كبير من الشبكة غير قابلة للرؤية."**.

* كارن روس، الثورة بلا قيادات: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة وتغيير السياسة في القرن الواحد والعشرين، ترجمة: فاضل جكتر، سلسلة عالم المعرفة ع 446، مارس 2017، المجلس الوطني الأعلى للثقافة والفنون والآداب، الكويت. ص 121
** نفسه. ص 122