Atwasat

عصيان العراسة

محمد عقيلة العمامي الخميس 17 أبريل 2014, 09:28 صباحا
محمد عقيلة العمامي

أوصلتني قناعتي بالفراغ السياسي، والأمني، والإداري في ليبيا إلى حد لا أنتقد معه أي قرار يتفق الناس عليه، مهما كان معوجًّا! فلعله يأتي بالفرج من حيث لا أدرى. فلقد وصلنا، في عهد القذافي إلى مرحلة يئسنا فيها من سقوطه، فأسقطه شبابٌ بصدور عارية، واقتنعنا أن الغربيين، وجيراننا، وأشقاءنا ينعمون بأموال مشاريعه، ومصلحتهم تقول إنه باقٍ، فدكت طائراتهم أرتاله المسعورة. وقلنا إن ما ينفقه على مدنه المزاجية، ومشاريعه الوهمية فوق أراضي أشقائنا سوف تجعلهم يحافظون على خيمته التي ينصبها أينما يخطر له، فساندونا علنًا وخفية.

وبعد ستة أشهر، انطلق الشياب، الذين فقدوا أبناءهم، خلف الشباب الذين فقدوا أطرافهم، يهتفون: "عاشت ليبيا. الطاغية مات!" وعندما أصبح اليوم التالي، امتلأت البلاد بطغاة مختلفي الأشكال والألوان والأفكار والأطماع. انتشروا كالفطر، كالفقاع. في السهول والوديان، وعند نواصي العاصمة، وشوارع بقية المدن، وقاعات المؤتمرات، والمطارات واختلط هذا بذاك، وصار الفرز مستحيلاً. وصرنا نسمع، كل يوم، مصطلحًا جديدًا: "مصالحة وطنية، عزل سياسي، أزلام، ميليشيات، ثوار، شهداء. مجلس موقت، مؤتمر كان موقتًا، ولكنه لم يعد ذلك!. أحزاب". وأشياء أخرى مضحكة تطول القائمة بها.

العصيان المدني هو رفض الخضوع لقانون أو لائحة أو تنظيم أو سلطة تعد في عين مَن ينتقدونها ظالمة وينسب هذا المصطلح للأميركي هنري دافيد ثورو

كنت في البداية متأثرًا متسرعًا، أدلو بدلوي، كلما وجدت بئرًا، أو مستنقعًا! ثم توقفت، فقد انتبهت أن كثيرًا من المصطلحات يتعامل الناس بها، بعيدًا عن معناها الحقيقي، ومن كثرة سوء الفهم شككت أن معلوماتي هي الخاطئة، فلا يُعقل أن هذه الاجتماعات والمؤتمرات والمحللين السياسيين والحقوقيين، ورجال وسيدات المجتمع المدني مخطئون، وأنا، العبد الفقير لله على صواب! فاحتفظت بالدلو فوق السطوح، وصرت مجرد مراقب، (قياد أجوال) اسمع، اتلصص. وصدقوني أحببت أن أفهم، لكنني (دخت)! ولكن الأمر تطور عندي إلى حالة أخشى أن تفقدني عقلي!

في البداية، كنت كلما سمعت شيئًا عجيبًا، أو مضحكًا اتبسم في سري، ثم تطورت البسمة إلى ضحكة، تطورت بدورها إلى قهقهة! آخر هذه الخوارق المضحكة: العصيان المدني، الذي ذكرني بذلك العجوز، صاحب الدكان، في قرية، قالوا اسمها (الفعكات)، طاله التأميم في عهد القذافي، ولكنه لم يقفله، كان يجلس أمامه بجوار كانون الشاي، وغالبًا ما يشاركه عجوزٌ من جيله، وتناقصت بضاعته، وكان يعلق قميصًا، لونه الأصلي أبيض في مدخل المتجر يعلن به أن المتجر مفتوحٌ. وكان يتظاهر بالتفاؤل ولا يبدي غضبه لأحد، خصوصًا الغرباء عن المنطقة.

ذات يوم، وقف على باب متجره شابٌ، تطلع إلى القميص، وسأله: "عندك بجامات نوم ياحاج؟" عندها فقد الحاج أعصابه وأجابه منفعلاً: "تا وين، يافرخ، النوم اللي تريد لا بيجامة؟". سؤاله لا يختلف أبدًا عن سؤال حيَّرني منذ بداية الحديث عن العصيان: "أين الحكومة التي ننظم لها عصيانًا مدنيًّا؟" العصيان المدني ينظم، كما تقول قوانين الدنيا لإسقاط حكومة. حكومة وليس (عراسة) والعراسة لمن لا يعرفها، هو تجمع أصدقاء العريس ليلة فرحه، غالبًا في مزرعة، تئن فيها، في البداية، الآلات الموسيقية حتى تعتدل الأوتار، وتنظم إيقاعات الدرابيك، والأوكورديون، ويتنحنح المغنون، أو المغنيات. وتبتدئ الموسيقى الشجية، وينتشون معها، ويفرحون، ولكن بعد منتصف الليل يصلون مرحلة يتحلقون فيها أفرادًا وجماعات، هذا يعزف والثاني يغني أغنية للمرحوم حميدة درنة، وآخر لأم كلثوم، ومرسكاوي.

كل مجموعة تغني لصلاح بلادها. أليس هذا ما يشبه، إلى حد كبير، ما يحدث عندنا؟ هل هناك رابطٌ واحدٌ يربط هذه الأسماء المتعددة الكثيرة التي صرنا نسمعها ليل نهار؟
هل سمعتم مرة واحدة، أنهم اجتمعوا جميعًا من أجل ليبيا؟

معظم الاجتماعات -ما لم تكن كلها- تتناول في الغالب مساءلة جزئية محددة! لذلك العصيان المدني لا يسقط حكومة العراسة: العصيان المدني لا معنى له ما لم تكن هناك حكومة يريد الشعب إسقاطها. فدعوني اقتبس لكم خلاصة ما قيل عن العصيان المدني، ومَن لا يصدقني (يقوقل) وسوف يجد التالي مكتوبًا بأية لغة يفضلها: "العصيان المدني هو أحد الطرق التي ثار بها الناس على القوانين غير العادلة، وقد استخدم في حركات مقاومة سلمية كثيرة موثقة؛ في الهند (مثل حملات غاندي من أجل العدالة الاجتماعية وحملاته من أجل استقلال الهند عن الإمبراطورية البريطانية)، وفي جنوب أفريقيا في مقاومة الفصل العنصري، وفي حركة الحقوق المدنية الأميركية. وعلى الرغم من اشتراك العصيان المدني مع الإضراب (خصوصًا الإضراب العام) في كونهما وسيلتين تستخدمهما الجماهير للمطالبة برفع ظلم أصابها فإن الإضراب متعلقٌ بحقوق العمال في مواجهة صاحب العمل (والذي يمكن أن يكون هو الحكومة). تمثل أحد أكبر تطبيقات العصيان المدني وأوسعها نطاقًا في لجوء المصريين إليه ضد الاحتلال البريطاني في ثورة 1919 السلمية.

معظم الاجتماعات تتناول في الغالب مساءلة جزئية محددة لذلك العصيان المدني لا يسقط حكومة العراسة

العصيان المدني هو رفض الخضوع لقانون أو لائحة أو تنظيم أو سلطة تعد في عين مَن ينتقدونها ظالمة، وينسب هذا المصطلح للأميركي هنري دافيد ثورو، كان قد استخدمه في بحث له نُشر العام 1849، في أعقاب رفضه دفع ضريبة مخصصة لتمويل الحرب ضد المكسيك، بعنوان "مقاومة الحكومة المدنية".

وفي أوروبا، حتى وإن كان اللجوء إلى مفهوم العصيان المدني قد تأخرت صياغته، فإن فكرة مقاومة قانون جائر أو غير عادل كانت موجودة قبل القرن التاسع عشر. أما اليوم فقد اتسع هذا المفهوم ليشمل كثيرًا من الأشخاص الذين يمارسون أفعالاً تسعى للإحلال إعلاميًّا محل "الحركات المناهضة للدعاية". ولا يرى البعض في هذه الأفعال إلا نوعًا من الإضرار بالممتلكات. أما البعض الآخر فيجدونها أفعالاً مفيدة تهدف إلى تغيير سياسة السلطات.. فهل بلغت؟ أو كما كنا نسمع بين حين وآخر من القذافي: "واضح الكلام (هذا)؟" وكنا نردد متبسمين: "واضح".

وليعلم أصدقائي أنني أجلت نشر هذا الموضوع حتى يُفض العصيان. فأنا لا أريد أن يتهمني أحدٌ بأنني ضد الجماعة.