Atwasat

عطلةُ الضحك

سالم العوكلي الأحد 22 يناير 2017, 09:42 صباحا
سالم العوكلي

حين قابلته للمرة الأولى، منذ خمسة وعشرين عاما في بنغازي، أحسست بعد عشر دقائق كأني أعرفه منذ سنين، لأنه دائما كان يَخبر أقصر الطرق إلى وجدان الآخرين عبر إطلاق سراح كل ما في داخله من ألفة ومرح دون توجس. الآخرون الذين حتى لو غادر وعيهم لن يغادر وجدانهم. وما الذي يولّد الألفة بسرعة البرق أكثر من إنسان همه أن يضحك ويدفع المحيطين للضحك، وكان يضحك وعلى ظهره سنم من الدموع كما يقول الماغوط، مناكفا كل ما حاول أن ينغص عليه هذه الهبة.

وطيلة تلك الفترة كنت دائما قريبا من بالقاسم المزداوي الإنسان ومختلفا معه في كثير من آرائه وما يكتب، وهو الاختلاف الذي كنا نحيله إلى ملعب للتهكم المتبادل وإنتاج الفكاهة، ولم يؤثر في علاقتنا، بل كان يزيدها غبطة، واستطعنا عبر خفة المشاكسة أن نروض أية أسباب للقطيعة وبأرواح مرحة تتبادل التعليقات الساخرة، وأحيانا الشتائم المُحبة الممزوجة بالقهقهة.

كلما وصلت مدينة طرابلس كانت أصابعي تتجه بلا وعي إلى رقمه في الموبايل لأخبره أنني هنا، ولم أجد تفسيرا لهذا السلوك التلقائي سوى أن من يحط في مدينة مثل طرابلس، مزدحمة، ومخنوقة، والجميع فيها مشغولون، يحتاج إلى الشخص الذي أصبح في خلال عشر دقائق من التعارف صديقاً. يحتاج إلى من يفكر بجانبه بصوت عال، مستعينا بذخيرته من الطُرف على مجابهة الزحام. صديق يستطيع بروحه المنسابة دون تحفظ، وبكيميائه الخاصة أن يحيل أسباب الغضب إلى مادة للفكاهة.

سيطرته على الجلسة لا تزعج أحداً، وحتى قَطْعُه للحديث دون أن ينتبه لا يزعج أحدا (لكن قطعه للطريق دون أن ينتبه أبكى الجميع). مرحه جميل وغضبه دائما مهدد بأول نكتة، وشكواه من القسوة لا يفتأ أن يتحول عتابا.

حينما كنت أهاتفه من درنة وأشتمه دون أن أقول مرحبا كان يضحك، لأنه يعرف أني لن أطلب منه شيئا ينجزه لي في طرابلس، أما حين أقول له: أهلا يا أستاذ. يرد مباشرة : هيا قول شن تبي من طرابلس يا وغد، ونضحك معاً، وطيلة تلك السنين كان هذا اتفاقنا وكانت لعبتنا، وكنا لا نمل منها لأنها تؤكد مرارا علاقة مفتوحة لا يحكمها سوى صفاء النية المتبادل.

بالقاسم لم يعد في طرابلس، وطرابلس يبكي فيها الضحك. رقمه سيظل في مكانه في نقالي، واسمه الأول في القائمة، ليس من ترتيب أبجدي، ولكن لأسباب ذكرتها. ستتجه أصابعي إلى رقمه كلما حللت في مطار طرابلس، لن أفترض غيابه، ولن أتخيل قبره ولا المقبرة لأنه رحل وهو خارج من المقبرة. لا أملك غير ذلك كي أروض فجيعة فقد صديق غادر الدنيا بالسرعة نفسها التي يدخل بها القلب.

ماذا سأقول له الآن وهو هناك، ربما يضحك الملائكة التي كانت تضحكنا صغارا، ماذا أقول له عن بلدته مزدة الفخور بها وبما تنجبه دائما من مبدعين، هل سأقول له، كما لم تتوقع يوما أصبحت فضاء لحروب قبلية وأصبح الرصاص المنتشر في ليبيا كله جزءاً من إيقاعها اليومي؟ بلدة بالقاسم وحسين المزداوي وأحمد إبراهيم الفقيه، وغيرهم ممن عانقوا الوطن بوجدانها وإلهامها، وحدها في جنوب العاصمة المشغولة بهمها تقاوم زحف الصحراء والتوحش والتعصب الذي أصاب أجزاء ليبيا كلها وجعلها مسرحا للقتل والخطف والتعذيب. ماذا أقول له عن وطن طالما كان نرجسيا في قصائده؟ وهل سيكفي حبه للفكاهة والمرح لترويض كل الحزن الذي يلوح في عيون الليبيين؟ بعضه خيبة وبعضه ندم، وكثير منه غضب مكبوت من كل من سرقوا الفرح وحس الفكاهة والأمل من شعب خرج يوما إلى الميادين ليشعل فتيل الحلم فاشتعل فتيل بارود لم يتوقف حتى الآن.

كان صديقي وصديق الجميع، بالقاسم المزداوي، مزيجا رائعا من الورع الذي يكتب به قصيدته النثرية، ومن شيطنة المحب للحياة وللأصدقاء والرحلات البرية الطويلة التي يحيلها إلى حفلة.

قال لي مرة: كان يوم جمعة مبارك، وخرجت من البيت في الظهيرة، فكانت رياح قبلي تلوح بسوط أحرش من الرمال، ولم تكن لدي سيارة، فترددت في الذهاب إلى المسجد، لكن أثناء ترددي وقفت أمامي مازدا مكيفة وتناهي لي صوت: هل تريد الذهاب إلى المسجد؟!. كان يرويها ككرامة حطت أمام بيت بالقاسم الذي يستحق كل كرامة. لكني أردت كما تعودت أن أشاكسه وأن أعبث ببعض اعتقاداته التي يرويها بجدية لا يمكن أن تتخلى عن حس الطرافة فيها: فقلت له لدي صديق حدثت له نفس الحكاية، خرج من بيته فوجد رياح القبلي تسد الأفق بأتربة تمنع الرؤية، لكنه كان ذاهبا إلى موعد مع عشيقته، فتردد، وأثناء تردده وقفت أمامه مرسيدس مكيفة وتهادى إليه صوت يقول: أي خدمة يا أستاذ، وركب المرسيدس إلى موعده. فقهقه كعادته. وقال عليك اللعنة يا عوكلي.

عليك ألف رحمة وكم يفتقدك الأصدقاء في وقت بعدت فيه المسافات بين الأصدقاء وأصبح فيه الضحك محفوفا بالرصاص.