Atwasat

رحمة وحموني

محمد عقيلة العمامي الإثنين 28 نوفمبر 2016, 11:53 صباحا
محمد عقيلة العمامي

عندما بدأت (صداقتي) مع رحمة اليهودية كنت طفلاً، وهي لم تكن عجوزاً تماماً، كنت حينها لا أعرف ماذا يقصد الكبار بكونها يهودية. أبعد ما أتذكره أنه ينبغي أن أصحو مبكراً كل يوم سبت وأذهب مباشرة إلى بيتها، المقابل لبيتنا على اليمين قليلاً، كانت تأتي إلى أمي غالباً مساء يوم الجمعة لتُحنيِ لها كفيها، أما إن كانت الحنة لقدميها تذهب أمي إليها. وكانت تجيد صنع (المقروض) الذي تغمره بسائل عسلي كثيف، يعطيك مع التمر المحشو فيه نكهة ما زلتُ أستعيد طعمها حتى الآن.

كانت مهمتي الرئيسة يوم السبت هي إيقاد نار الكانون ثم تعبئة الفوانيس بالكيروسين وإشعالها. وتسخين أكل كانت قد أعدته من ليلة الجمعة، وأشياء بسيطة أخرى تقوم بها في الأيام كافة إلاّ يوم السبت، وكانت والدتي تشجعني على ذلك: «مسكينة رحمة عاقر ليس لها أطفال، عليك أن تساعدها؛ صحيح أنها يهودية لكنها طيبة، وتحبك دون أطفال الشارع كلهم». ثم علمت فيما بعد أن اليهود لا يقومون يوم السبت بأي عمل، لا بالبيع ولا بالشراء، ولا بالطبخ وإنما يوم عبادة وراحة تامة.

كانت رحمة تحتاجني أن أجلب لها احتياجاتها من السوق، وكان زوجها (حموني) يقضى يومه جالساً أمام دكان (خلافو) في شارع عمر المختار بالقرب من سوق الحوت الذي كثيراً ما تبعثني إليه، فيعطيني كيساً من الأسماك المنظفة والمقطعة، وبمجرد أن تُفرغ السمك في الصحن ترش عليه الملح وكمون حوت وفلفلا أحمرَ حاراً وكثيراً من فصوص الثوم المهروس وتعصر فوقه نصف ليمونة وتسكب القليل من زيت الزيتون، وتتركه جانباً.

تضع القدر فوق الكانون وتسكب زيتاً وتضع أربع ملاعق من طماطم معجون وتأخذ في تحريكه وتضيف الماء بتمهل وتواصل التحريك حتى يطفو الزيت فوق صلصة الطماطم، تضيف بعدها ملعقة كمون كبيرة وفلفلاً أحمرَ مطحوناً وملحاً قائلة كلما تفعل ذلك: «الحوت يحتاج إلى ملح أكثر مما يحتاجه اللحم، ربي خلقه سامط بلا ملح ليكون أخف من ماء البحر المالح فتسهل حركته»، ثم تضع السمك المتبل. وتتركه على النار الهادئة حتى ينضج ثم ترفعه وتضعه في النافذة ليبرد على مهل حتى موعد الغداء: «كول الحرايمي مصقع وطبيخة الخنافر ساخنة». هذا هو طبق الحرايمي الذي يرى أصدقائي أنني من أمهر طهاته. إنه طبق جاء به اليهود من اشبيلية إلى المغرب العربي من بعد سقوط غرناطة سنة 1492.

بعضنا يعترض على عودة ليبيين إلى بلادهم بسبب دينهم فقط ومن دون أن يعرفوا الفرق الشاسع ما بين الصهيونية والدين اليهودي

وكبرت، وصرت موظفاً وأمست رحمة سنة 1967 عجوزاً. في تلك السنة قامت حرب يونيو وهاجت الشوارع العربية، واكتشفنا أن إسرائيل هي التي افتعلت المظاهرات ليهاجر إليها يهود مصر، وتأثر الليبيون بما حدث فهاجوا أيضاً. هاجر اليهود باتفاق مع دولة ليبيا إلى أوروبا وظلوا طويلاً بها على أمل العودة إلى ليبيا. منهم من انتقل إلى إسرائيل وصار من أولئك الذين يسمونهم (السفرديم)، أما أغلبهم فكانوا متجذرين في ليبيا ويعتبرونها وطنهم ولا يريدون مغادرتها. يوم أن جاءت السيارة لتنقل رحمة وحموني إلى الميناء، كانت رحمة تبكي وتولول: «أنا لا أريد أن أترك بنغازي أريد أن أدفن مع أمي في الكيش». وكان لابد أن تذهب. أعطتني شالاً، وقالت لي أعطهِ لأمك وصندوقاً قالت لي احفظوه لي حتى عودتي. كان بالصندوق مواعينها ولكنها لم تعد.

وفي روما أخذني صديقي مفتاح إلى مطعم (الفونصو) في فيا بريشيا رقم 52 كان المطعم خاوياً إلاّ منه وزوجته. وكان منزوياً في الركن، يدندن بأغنية العلم: «غريب في بلاد ناس قليل وين يزهى خاطره «ثم دخل المطبخ وجاءنا بصحون صغيرة: حرايمي وكرشه، وكوارع وخنافر، وقلايه، فسأله مفتاح نحن لم نطلب هذه الأطباق، أجابه: (انطمر!) هذا ما أطبخه هنا وهي أطباق جئناكم بها من أشبلية سنة 1492م ولم يكن يهودكم يعرفون كيف يطهون الحرايمي وهم يعيشون على شاطئ بحر سوسه منذ سنة 631 ق.م... وما زلتم تذهبون إلى سوق الحوت، (مكموخين) تتناولنها لتطير سكرتكم، مازحه مفتاح: «واضح أنك سكران ..» أجابه على الفور: « نعم! سكران منذ سنة 1967م. أتريد أن تشاركني (بوخه) تقطرها (دوده )»، والتفت نحوها : «هاتي ربع وطاسة الشاهي». سكر مفتاح وأخذا يتناوبان أغاني العلم، ولما كان دور الفونصو قال: «مرايف أرياف الطير... «ولكنه انفعل وغلبته دموعه وقال لمفتاح : «هيا روحوا نبي نرقد».

وما زالت رسالة صديقي فتحي مطوية مع أوراقي، تلك التي حدثتكم عنها والتي اختتمها قائلاً لي: «جوني، يا صديقي، لم يكن كاثوليكياً، ولم يكن يهودياً، وأكيد ليس بمسلم، جوني إنسان حقيقي، فقط إنسان! أتعرف ما الذي طلبه أيضاً في وصيته؟ أن أعود إلى طرابلس، إن استقر حالها، وأتزوج وعندما يكبر أطفالي، آخذهم إلى المقبرة ولو لمرة واحدة لزيارة قبر زوجته (إيريني) التي لم تنجب له أطفالاً «واستطرد: «مسكين جواني لا يعرف أن جبانة اليهود أزيلت وشيدوا فوقها برج الفاتح! وحتى لو كانت باقية، بالله عليك بأي دين أنقل لها صلواته؟». ثم صمت برهة قبل أن يتمتم «إيريني إيريني! أتعرف أن معنى إيريني هو السلام؟ «هززت رأسي كعضو مغيب في لجنة دستور.

إلى متى نتصرف هكذا وكأننا قارة لا علاقة لها ببقية العالم؟ ونحن دائماً على حق وهم على باطل، وما نراه حقاً لنا نمنعه عن الآخر، فمن لا يعرف أن العالم صار قرية واحدة، تحكمها قوانين ودساتير لا تهتم لا بلون الإنسان ولا بدينه، ولكن بمدى طاعته واحترامه للآخرين ودساتيرهم. منذ أكثر من أربعين عاماً كنت -أيام جاهليتي- في قرية صغيرة في أقصى شمال الدنمرك، اسمها (فيبرج) رفقة صديق عزيز. دخلنا «مرقص». كان عازف طبول الإيقاع يقرعها بمهارة، وكان أسود اللون بشعر طويل مجعد مجدول مزين بخرز ملون، يهزه متناغماً مع الموسيقى واقتربت منه وعند استراحته قدمت له مشروباً وسألته: «من أي بلد أنت؟ «أجابني على الفور: «من باب بحر! «زنجي أسود ذو شعر طويل، هرب من نظام لم يقتنع به. وصل الدنمرك، طلب اللجوء، تحصل على الجنسية الدنمركية، وفق القانون من دون أن يعرفوا دينه، أو يعترضوا على لونه. بعضنا يعترض على عودة ليبيين إلى بلادهم بسبب دينهم فقط ، ومن دون أن يعرفوا الفرق الشاسع ما بين الصهيونية والدين اليهودي، بل ويستجدون جنسيات العالم كله، التي يحكم بعضها يهود، ولم يمنعها عنهم أحد بسبب دينهم، أو لونهم.
عجب!