Atwasat

من المباهاة بـ"نقص الاضطهاد" إلى المباهاة بشدة الاضطهاد!

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 20 نوفمبر 2016, 09:57 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

تتباهى جموع غفيرة من المسلمين المعاصرين بأنه لم تشن حملات اضطهاد ومطارة وإعدامات، ولم توجد محاكم تفتيش ضد العلماء والفلاسفة والمفكرين في تاريخ الحضارة الإسلامية، على غرار ما جرى في أوروبا العصور الوسطى، واستمر، في أسبانيا بالذات، حتى بدايات العصور الحديثة التي يؤرخ لها عادة بسنة 1492، وهي سنة سقوط غرناطة وانحسار الوجود الإسلامي في أسبانيا. هناك اعتراف ضمني، إذن، بوجود مظاهر اضطهاد متنوع الأشكال في تاريخنا الإسلامي ضد المفكرين والعلماء والفلاسفة، لكننا نفاخر بأنه ثمة من تجاوزنا في ذلك شأوا أبعد!

وإذا ما اكتفينا بالحديث عن القتل الذي طال أشخاصا من الفئات المذكورة فسنجد سعيد بن جبير (54-93 هـ./ 665-714 م) وهو من التابعين وكان فقيها، الذي قتله الحجاج. أي أن الاضطهاد من هذا النوع ابتدأ منذ مرحلة مبكرة من التاريخ الإسلامي. ثم الجعد بن دينار (78؟-105هـ/715-742م)، المفكر الذي نادى مبكرا ببعض أطروحات المعتزلة ، والذي قتله خالد القسري والي هشام بن عبد الملك على الكوفة حينها، يوم عيد الأضحى. إذ أنهى خالد خطبة العيد قائلا: أيهاالناس، ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحِّ بالجعد بن درهم [.... ].ثم نزل فذبحه في أصل المنبر.

عبد الله بن المقفع، الأديب المعروف (106-142هـ/ 724-759م) قتل بطريقة بالغة الشناعة بحيث كان يقطع لحمه ويلقى في النار أمامه إلى أن مات. كما أن الطريقة التي قتل بها الحلاج المتصوف الشهير (244-309ه/ 858-922م) معروفة هي الأخرى. فقد قطعت أطرافه ثم صلب وبعدها أحرقت جثته وذر رمادها في نهر دجلة. نجد أيضا السهروردي الصوفي صاحب حكمة الإشراق والذي يشار إليه بالمقتول تمييزا له عن شخصين آخرين يحملان نفس اللقب، وهناك من يقول أن وصفه بالمقتول تم كي لا يقال عنه الشهيد.

الهيئة، بهذا التوضيح تبدأ في إزالة الفارق بين تاريخ الاضطهاد الفكري في الحضارة الإسلامية وتاريخ الاضطهاد الفكري في الحضارة المسيحية

لا نريد أن نمضي أكثر في سرد أسماء المفكرين الذين أزهق أرواحهم الانغلاق والتطرف، وأيضا نقر بأنه فعلا (وهذه هي النقطة الفارقة) لم تنشأ في التاريخ الإسلامي محاكم رسمية خاصة بمطاردة المفكرين والعلماء والفلاسفة على غرار ما حدث في أوروبا. حيث أنشأت الكنيسة الكاثوليكية حوالي1184م محاكم مختصة بقمع البدع عرفت باسم محاكم التفتيش، التي سرعان ما تم تبنيها عبر أوروبا، وكانت عقوبات القتل والحرق شائعة ومتكررة. وفي أسبانيا مع بدايات القرن السادس عشر تكثف نشاط محاكم التفتيش ضد اليهود والمسلمين المتحولين إلى المسيحية للتحقق من صدق نواياهم.

*
بيد أنه يبدو أنه توجد بيننا أعداد لا يستهان بها لم يرضِها الحد "المتواضع" من اضطهاد العلماء والمفكرين والفلاسفة الذي وقف عنده أسلافهم، ولم يرضهم أيضا أن يتفوق علينا الغرب في هذا المجال. فمن الجماعات الدينية الإرهابية التي لا تعرف سوى حز الرؤوس وبتر الأطراف، إلى الشروع في السير على خطى محاكم التفتيش وربما إنشاء محاكم تفتيش حقيقية. يؤشر إلى هذا الطريق بيان "الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية" في ليبيا الذي أسمته "توضيح" والمتعلق بحادثة تكفير خطيب أحد مساجد البيضاء الكاتبَ الشابَ خليل الحاسي والذي أعلنت فيه الهيئة عزمها على "رفع دعوى قضائية ضد الكاتب المبتور [لعلها خطأ طباعي والمقصود: المذكور!] في اعتدائه المتكرر ضد الشريعة الإسلامية والطعن فيها".

وقد تكون هذه الخطوة بادرة أولى في مسلسل رفع دعاوى ضد كتاب ومثقفين آخرين. كما يبدو أن الهيئة كانت تخطط لهذا منذ إنشائها وذلك من خلال ما أشارت إليه في التوضيح المذكور من أن ""والهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية إذ تذكر هذا لتبين أنه للخطيب والواعظ أن يرد على كل من طعن في الإسلام وعقيدة المسلمين، أو اعتدى على الشريعة الإسلامية، وفقا للوائح والتنظيمات بالهيئة". فالجملة الأخيرة "وفقا للوائح والتنظيمات بالهيئة" تدل دلالة واضحة على أن هذا الهدف (هدف محاصرة الثقافة والفكر ومطاردة المثقفين والمفكرين وتكفيرهم، صراحة أو ضمنا، من على منابر المساجد) مدرج في قانونها الداخلي.

إن الهيئة، بهذا التوضيح، تبدأ في إزالة الفارق بين تاريخ الاضطهاد الفكري في الحضارة الإسلامية وتاريخ الاضطهاد الفكري في الحضارة المسيحية، الذي هو هنا محاكم التفتيش. وبذا لن تُبقي للمسلمين المعاصرين ما يتباهون به في هذا المجال. إلا إذا كانت الهيئة تستهدف قلب الوضع وتحويل المباهاة من مباهاة بـ "نقص" الاضطهاد إلى المباهاة بشدة الاضطهاد.!