Atwasat

كَفُّ الشُرْطِيَّة

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 06 نوفمبر 2016, 09:59 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

كثيرا ما تتولد الأحداث الكبيرة، وحتى الكبرى، عن وقائع صغيرة، وحتى صغرى. فمعظم الحرائق يأتي من مستصغر الشرر، مثلما يقول المثل العربي، وكما ورد في الإنجيل أيضا بصيغة مقاربة.

وفي قصة بعنوان "كان هذا هو الموجز" لصديقنا بشير زعبية من مجموعته التي بنفس العنوان* تتوتر العلاقات بين دولتين جارتين بعد نزاع عائلي وقع بين زوج وزوجته في إحداهما! ينشب خلاف بين الزوجين فيشج الزوج رأس زوجته، وأثناء وجوده في مخفر الشرطة يقوم حشد هائج من قوم الزوجة بمحاولة اقتحام المخفر ما يضطر أفراد الشرطة إلى إطلاق أعيرة نارية تحذيرية في الهواء. تنتهز الدولة المجاورة الفرصة وتتحدث إذاعتها عن أخبار غير مؤكدة تقول بقيام مظاهرات مناوئة للنظام وصدامات عنيفة، الأمر الذي تنفيه إذاعة الدولة المعنية وتصفه بالافتراءات، ويتطور الأمر إلى اتهامات متبادلة بين الدولتين الجارتين بالاستعداد لعدوان عسكري مبيت على الأخرى.

يخبرنا التاريخ عن اشتعال حروب طاحنة دامت سنوات كانت شرارتها أحداثا ضئيلة الشأن في ذاتها

قد يبدو الأمر أشبه بالطرفة وأنه عمل من شطحات الخيال. لكن يخبرنا التاريخ عن اشتعال حروب طاحنة دامت سنوات كانت شرارتها أحداثا ضئيلة الشأن في ذاتها.

لنتذكر في تاريخنا العربي حرب البسوس (حوالي: 494م) بين قبيلتي بكر وتغلب التي اندلعت بسبب قتل ناقة ويقال أنها بقيت مشتعلة أربعين سنة (وهو رقم مبالغ فيه إذ ترى تقديرات أخرى أنها دامت نصف هذا العدد). وهناك أيضا حرب داحس والغبراء (حوالي: 583م) بين قبيلتي عبس وذبيان التي اشتعلت بسبب اعتراض طريق فرس في سباق، ويقال أيضا أنها ظلت مضطرمة أربعين سنة (الرقم أربعون مرة أخرى!).

في العصر الحديث احتلت فرنسا الجزائر سنة 1830 لأن داي الجزائر حينها رمى القنصل الفرنسي الذي تطاول عليه بمروحة كانت في يده وطرده، وكان اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند مع زوجته من قبل طالب صربي في 28 يونيو عام 1914 أثناء زيارتهما لسراييفو الشرارة التي أضرمت الحرب العالمي الأولى. وشبت حرب بين دولتي هندوراس والسلفادور عام 1969بسبب مباراة كرة قدم، إلا أنها لم تدم سوى ستة أيام.

بالتأكيد، لابد أن تجد هذه الشرارة مواد جاهزة للاشتعال: أشياء قابلة للاحتراق في المثل العربي وآية الإنجيل، والعلاقات الملتهبة أصلا بين الدولتين الجارتين، كما في قصة بشير زعبية، وسجل العداءت القبلية والعلاقات الخالية من الاطمئنان والثقة في حالتي حرب البسوس وداحس والغبراء، وكذلك هو الشأن في الاستعدادات والنوايا المبيتة لفرنسا في احتلال الجزائر وأجواء العلاقات المشحونة وطموحات التوسع في أوروبا قبيل الحرب العالمية الأولى والمشاكل الخاصة بالأوضاع الداخلية في كل من الهندوراس والسلفادور وما يسود العلاقة بينهما من توجسات ومخاوف.

إلا أن تحرك الملايين في دول عربية في قارتي أفريقيا وآسيا وسقوط الأنظمة الحاكمة في كل من تونس وليبيا ومصر واليمن، وتقلص رقعة الأرض التي يبسط عليها النظام سلطته في سوريا، واستعار حروب أهلية (نأمل أنها تبقي وتذر) في ليبيا واليمن وسوريا، وتحرك طائرات وأساطيل حلف الناتو ودولة أخرى من القوى العظمى، والألوف المؤلفة من القتلى والجرحى والمعاقين واليتامى والأرامل والثكالى والمشردين واللاجئين والنازحين والمهجرين، وما أحدثه تدفق اللاجئين على أوربا من مخاوف وتوجسات وارتباكات، ناهيك عن حدوث دمار هائل في البنى التحتية والعمران وخسائر، بأرقام فلكية، في الأموال وتعطل مدارس وجامعات، ووقوف العالم على شفا حرب عالمية ثالثة ستؤدي، حالة وقوعها، إلى دمار كوكب الأرض واختلال نظام المجموعة الشمسية والمجرات، كل ذلك كان بسبب حركة يد الشرطية التونسية فادية حمدي التي تحركت (يوم الجمعة 17/ 12/ 2010) صافعة شابا فقيرا (هو محمد البوعزيزي)، الذي كان يحاول استخلاص رزقه من بين أنياب وبراثن ظروف الحياة المعاكسة ببيعه الخضار والفاكهة، كفا جعل الدنيا تضيق به ووجدانه يفيض إحساسا بالقهر فيقوم بإحراق نفسه على الملأ. فانظر، ماذا ترتب عن كف الشرطية!

*بشير زعبية، كان هذا هو الموجز، المؤسسة العامة للثقافة، طرابلس 2010