Atwasat

اليد اللي ما تشوفكشي

محمد عقيلة العمامي الإثنين 26 سبتمبر 2016, 09:52 صباحا
محمد عقيلة العمامي

كثيرة هي التعليقات الممتنة التي وصلتني عن مقالي "يساري في الوسط"، الذي تناولت فيه الناس الذين يستخدمون أيديهم اليسرى بدلا من اليمني، غير أن أمرين مثيرين مرتبطين بذلك المقال رأيت أن أحدثكم عنهما: أولهما ما حدث لي مع "برعي" صبي بقال شارعنا، الذي قدم نحوي ملوحا بيده اليسرى، بمجرد أن لمحني أقترب من باب المحل، كما لو أنه يتوعدني. لم يخطر ببالي أبدا أنه قدم نحوي ليحييني على المقال، الذي لا أدري كيف وصله.

كان مستاء جدا من الذين يقولون أن اليد اليسرى للنجاسة فقط، معللا أن ذلك يعني أن الشول أنجاس. عندها غمرني إحساس بالطمأنينة، فهجومه لم يكن عدوانيا بسبب وشاية من البواب، أو تعليق نقله له الفاكهاني على لساني، فلقد تخلقت بينني وبين أصحاب محلات الشارع ود وصداقة ثابرتُ على تقويتها، بسبب السحب أحيانا على النوتة، متعللا بعدم توفر (الفكة).

انفعال صبي البقال سببه شحنة من قهر وعجز محبوسة في عقله، إذ لم يعرف كيف يبريء نفسه من اتهام الناس الباطل له. ابتسمت له وطوقت كتفه بيدي اليمني، من جهته اليسرى، ووضحت له أن سبب ذلك أنهم يفسرون تقديم الكتاب، يوم الحساب، إلى المولى عز وجل، يكون باليد اليمني. وهذا صحيح، ولكن ليس بالقرآن ما يعلن أن الأعسر إنسان نجس، وإنما تُركت اليد (الكسولة) يمنى كانت أم يسرى لتقوم بتنظيف النجاسة. انفجرت أساريره بفرحة غمرت أرفف المحل التي مسحتها أبحث عن زيت الزيتون.

والأمر الثاني مقال رائع عنوانه: "تَعلَم كيف يمشى فأطلق يديه" كتبه الكاتب المغربي سعيد بنكراد؛ أستاذ السيمائيات بجامعة محمد الخامس. المقال، هو في الواقع، جزء من ملف متكامل عن اليد ساهم فيه أحد عشر كاتبا فكان مفيدا إلى درجة الكمال بسبب معلومات نعرفها عن كل ما يتعلق بالأيادي ولكننا لم ننتبه إليها تماما.

اليد نفسها من دون بقية أعضاء الجسم هي التي يطلبها الخاطب لنصفه الآخر فطلب اليد من عائلة الأنثى يلخص جوهرها كله

الذي تعلم كيف يمشى فأطلق يديه، هو القرد، وقد استوحاها الكاتب من رواية نجيب محفوظ ثرثرة فوق النيل. يقول الكاتب ما معناه: عبر الإنسان عن وجوده باديء الأمر بالصوت ولكنه انطلق خارج ملكوته الضيق من خلال اليد، التي قامت بالتعبير نيابة عن اللسان، ثم صورت التاريخ على كهوف الجبال، بعد أن ميز باليدين ما بين الصلب والناعم، الحار والبارد، ثم قاده اللمس نحو المحافظة على النوع فنعومة الأنثى وطراوتها فجرت فيه الرغبة نحو الجنس الآخر، واليد هي التي نبهت العين لتنقل الإحساس بالنعومة من دون لمس مباشر غير أن اللمس المباشر يقود إلى الحياة ذاتها،. فالشاعر المخضرم أبو صخر الهذلي يقول بيتا يقال أنه أجمل ما صور حاسة اللمس:
تكاد يدي تندي إذا ما لمستها ** وينبت في أطرافها الورق النضر.

صحيح أن اللمس مجرد أداة من أدوات الإنسان، بل مجرد وظيفة أولية، لتنفيذ مقاصد الإنسان؛ فهي التي تُرحب وأيضا تتوعد، ولكن قوتها في قدرتها على نقل إحساس الملامسة مباشرة إلى الذاكرة، لتكوين مخزون نسترجعه بمجرد معاودة اللمس ولو بعد حين، فاليد هي أداة الفعل، بل بؤرة الإنسان مودعة فيها: بها يرى الأعمى، ويتكلم الأبكم بل ويسمع الأطرش، وبها تعلم الإنسان قياس المسافات فانطلق لهندسة كل شيء، وبها "نحتمي من الأخطار، وبواسطتها نتقي كل الشرور، وباليد نتقزز ونصد ونغري وننذر ونتهكم ونحذر ونأمر".

ولأهميتها كل ما في الكون له يد، أو هكذا نستعيرها لقوتها: "يد الله ويد القدر ويد المنون ويد القاتل ويد الكريم"ويد الكائن العاقل المفكر تنجز كل أعماله" وهي التي تغري وتداعب هي السبيل إلى مواطن اللذة فهي ترى وتسمع وتتحسس وتغري وتصل العين بالعين: "إنها وجه بلا عيون ولا صوت ولكنها ترى وتتكلم. تتجه إلى السماء ابتهالا، وتستقبل نور الشمس وتتقي وهجها، وتحتضن العائد وتودع الراحل.

واليد هي المبدعة هي الرسامة، وهي العازفة. وهي أيضا القاتلة. وأغلب ثقافات اتخذتها رمزا لدرء العين فالخميسة هي كف اليد للحماية من الأرواح الشريرة، واليد نفسها، من دون بقية أعضاء الجسم، هي التي يطلبها الخاطب لنصفه الآخر، فطلب اليد من عائلة الأنثى يلخص جوهرها كله.

ولابد أن أعود إلى صديقي "بُرعي" لأخبره أن اليد هي التي جعلتنا نعرف المجتمعات الإنسانية كلها، وهذه الجماعات الإنسانية ربطت بوضوح بين اليد التي لا تعمل والنجاسة، وبين الطهارة واليد التي تعمل؛ يسرى كانت أم يمنى: "وأنا مبهور يا برعي برشاقة ودقة وسرعة يدك اليسرى في لف قرطاس بلح وادي النطرون السكري "وأكيد أنك لا تعرف أن الذي زرع النخلة، ورعاها ولقحها وقطع عراجينها وبعثها إلينا في القاهرة" أشول" مثلك تماما، وإن كنت لا تصدقني اذهب بنفسك إلى وادي النطرون!