Atwasat

قوة الحياة الاجتماعية

سالم العوكلي الأحد 25 سبتمبر 2016, 11:45 صباحا
سالم العوكلي

مع بداية الحراك الفبرايري في ليبيا، وحتى بعد شهور من سقوط النظام، كان معظم الأرض الليبية، إن لم أقل كلها، خالية من أية مظاهر للدولة، أو دولة القانون.

مدن كاملة بضواحيها خالية من المؤسسات الأمنية، من الجيش والشرطة والنيابات والمحاكم أو أية مظاهر للدولة الطبيعية، ورغم ذلك كان السلم الاجتماعي متوفرا على قدر كبير ونسبة الجريمة عادية، وكنت أكرر دائما تخيلوا أن تخلو أية مدينة أوروبية من هذه المؤسسات الأمنية وانظروا ماذا يحدث، وكان البعض يضرب مثالا بالعدد الهائل من الجرائم ومظاهر الإخلال بالقانون التي حدثت في أمريكا حين انقطع التيار لمدة نصف ساعة.

ترجع هذه الظاهرة في صميمها لقوة الحياة الاجتماعية ولفعل الاتفاق الاجتماعي في طبيعة العلاقات بين الناس، ولحضور القوانين وأشكال السلطة غير المرئية، أو غير الممأسسة، والنافذة في النسيج الاجتماعي، وإذا ما اعتبرنا هذه القوة للحياة الاجتماعية خصيصة وليست نقيصة فالواجب يحكم علينا الالتفات إليها كخصوصية ملهمة حين نتصدى لتشخيص أزماتنا والبحث عن حلول لها، فالجانب الاجتماعي الذي حافظ على هذا القدر من السلم الاجتماعي في غياب مؤسسات القانون والعقاب هو قاعدة أخلاقية تشكلت عبر قانون من التدافع لا يمكن التغاضي عنه أو القفز عليه بأي حال من الأحوال، أو تجاهله عبر المصادرات التي تربطه بالتخلف أو عرقلة قيام دولة القانون الجافة، والأحرى أن نتجه لبناء طبقة سياسية وقانونية من الدولة فوق هذه الطبقة الاجتماعية العميقة بما هو إيجابي في منظومتها القيمية، أو ما يمكن تسميته بالدولة الاجتماعية العميقة.

طبعا إذا ما استثنينا تلك الصراعات السياسية والأيديولوجية، والصراعات على السلطة والمال؛ التي تولدت عنها صراعات دموية، فإن الحياة الاجتماعية العادية الغالبة لدى معظم الليبيين كانت تسير وفق هذا الميثاق الاجتماعي المتوارث حتى وإن كان غير مدون أو ممأسس وفق المفهوم الإجرائي الحديث للمؤسسة، وعبر هذه الحقب تشكل ما يعرف الآن بالمجتمع الأهلي الذي يشمل المواثيق العرفية وآليات التكافل التي فرضتها ضرورة إدارة الزحام وتضارب المصالح قبل أن يتشكل المفهوم السياسي للدولة الليبية. تلك الدولة التي لم تكتمل مقوماتها منذ تكونها ما جعل هذه البعد الاجتماعي حاضرا بقوة لتعويض هذا النقص، فالدولة الاجتماعية تتموضع مباشرة بمجرد أن تتراجع دولة القانون.

لعل عودة الوجدان الشعبي منذ بداية حراك فبراير لذاكرة ما قبل الانقلاب يشي بأن الحلم بالدولة المدنية توقف هناك

ما حدث فيما بعد أن تدخل المجتمع الدولي عبر مندوبي الأمم المتحدة، كما تدخل سفراء الدول الغربية وعلى رأسهم السفيرة الأمريكية في الشأن الليبي قياسا على خبرة أزمات سياسية دولية في مجتمعات مختلفة، واعتمدت حلولا لا تناسب طبيعة المجتمع ولا تنهل من طاقته الكامنة من قوة الحياة الاجتماعية، منطلقة من مرجعية مجتمعات انزاحت فيها الحياة الاجتماعية وقوانينها لصالح السياسة والقوانين الحديثة الفاعلة منذ قرون، والنتيجة كانت تجاهل هذا الميراث المهم في ليبيا وتطبيق آليات حوار سياسي منحولة عن أزمات دول ومجتمعات مختلفة.

وهكذا كان مسار الحوار السياسي الذي تنقل بين مدن عديدة خارج ليبيا، وبإدارة وهندسة مبعوثين دوليين أو سفراء يحاولون تطبيق ما حدث في دول مثل أيرلندا أو تشيلي أو أنغولا أو غيرها على الواقع الليبي، وهم في الواقع، ومن منطلق خبرتهم، لا يجيدون سوى التكتيك السياسي وفق آليات صراع فوقية، وليس من خطئهم عدم التفطن للطبيعة الليبية التي كانت تحتاج إلى حوار اجتماعي قبل السياسي، ومصالحة اجتماعية قبل السياسية، لكن تواطؤ المجموعات السياسية مع هذا الخيار ونسيان منظومة القيم الاجتماعية ذهب بالحوار السياسي إلى مستويات نظرية بعيدة عما يحدث فوق الأرض، ما آل في النهاية إلى مخرجات كان من الصعب تحقيقها لأنها تتناقض مع الروح الاجتماعية والمزاج الليبي العام، وتورط المستفيدون من هذه المخرجات في تكتيكات سياسية منحولة من تجارب دول أخرى تتبنى فكرتَين: سياسة الأمر الواقع، وضغط المجتمع الدولي، وهما فكرتان تتناقضان مع طبيعة مجتمع تشكل فيه العاطفة حيزا كبيرا من عقله.

لقد طُرحتْ المصالحة الوطنية كأولوية لبناء الدولة وتم اعتبار القبائل والشيوخ والأعيان وسيلة فاعلة من أجل تحقيق هذه المصالحة، لكن أصواتا عديدة ارتفعت داخل المؤتمر الوطني العام وفي وسائل الإعلام تهاجم القبائل كأداة مصالحة اجتماعية وتعتبرها من إفرازات التخلف، وهذه الأصوات التي غلبت النظرية على النظر إما ارتكزت على أفكار نظرية لحداثة الدولة، أو عن تأثر مباشر من عيشها فترة طويلة في دول غربية، أو عن رغبة في فرض أيديولوجيا إسلامية تعتبر القبيلة أداة جاهلية، وفي الأحوال جميعها تُهنا عن طريق مؤهلة لإيصالنا إلى بر الأمان، حيث انفصل العمل الاجتماعي الذي يقوده أعيان ومشايخ وحكماء عن العمل السياسي الذي يقوده سياسيون غربيون برؤى متسقة مع ثقافاتهم. أنجز الأعيان والشيوخ الكثير من النتائج فوق الأرض عبر المصالحة بين أطراف نزاع في كثير من المناطق، لكن السياسيين كانوا عقبة دون ارتفاع سقف العمل الاجتماعي إلى المستوى الوطني الشامل انطلاقا من عمق البنية الاجتماعية.

فقدنا هذه الخبرة الطويلة التي استعان بها الملك في بداية بناء الدولة الليبية من أجل فرش أرضية مناسبة للتفاعل السياسي والتنموي، فبدأ بتحرير مواثيق التسامح الاجتماعي، كما تصدى الكثير من أعيان القبائل والمدن للسلطات التشريعية والتنفيذية في بدايتها، وكان لالتزامهم الاجتماعي ولتمتعهم بالحكمة، أكثر حتى من الخبرة التقنية، دور مهم في تجاوز الكثير من المصاعب التي واجهت بناء الدولة في بدايتها.

هل سنقول أن الزمن تجاوز تلك المرحلة؟ ربما ثمة اختلافات في التفاصيل، لكن في الحقيقة لم يتسع الوقت ولا طبيعة النظام السياسي فيما بعد، لتشكل دولة حقيقية جديرة بأن تنزاح فيها قوة الحياة الاجتماعية لصالح قيم الدولة الحديثة الدستورية والقانونية، ولم تتحقق لدينا الذات المستقلة قانونا، كما لم تتشكل نخب سياسية حقيقية حَرية بجعل فكرة الحوار السياسي الفوقي مخدومة بالعقل الجمعي المصلحي، ونابعة من بنية علاقات المجتمع الأفقية. ولعل عودة الوجدان الشعبي منذ بداية حراك فبراير لذاكرة ما قبل الانقلاب يشي بأن الحلم بالدولة المدنية توقف هناك، أو أن من يضيع في المتاهة لابد أن يرجع لنقطة بداية يتذكرها جيدا.