Atwasat

بورتريه الساطور.. في رثاء حسن دهيميش

أحمد الفيتوري الثلاثاء 23 أغسطس 2016, 12:32 مساء
أحمد الفيتوري

-1
لم أعرف الانترنت إلا وكان الساطور في الموعد، كان باب القرن الحادي والعشرين قد فُتح على مصراعيه فكان الزمان زمان النت، كنا نلتقي ثُلة أصدقاء في الهواري عند الصديق فوزي بن كاطو في مزرعتهم، حين كل مساء يزودنا الصديق حسن بوليفة - من خلال عمله بشركة الخليج - برزمة ورق هي حصيلة اليوم من نتاج المُعارضة الليبية. كأنما الانترنت كوةٌ للتنفس جاءت في حينها ، وكأن الكوة / المُعارضة : ليبيا وطننا هذا الصرح ما لم يقم مثله ما بناهُ ابراهيم اغنيوه وحده، ومن سيبقى وحده من لا مثيل له. ابراهيم اغنيوه ليس كمثله شيء سوى الساطور، الساطور ما نزل على قتامة حالنا بردا وسلاما، ونزل على مُقتمّ حالنا نارا.

كنتُ أُهرب الاوراق التي يجلبها حسن بوليفة – فك الله أسره- الى بيتي ، ومنهُ الى بيوت، وكان الساطور من يُبهج البيوت التي تصلها غنيمتنا تلك، لم نعرف من الرسام الساطور هذا لكن كنا نراهُ فينا ونرى فعلهُ فيهم. أن يكون هذا الفنان / الفعل هذا من مباهج مُعاناتنا، هذا الفنان هو حسن دهيميش من كان في الموعد وما زال، وبه كانت فرادتنا في أننا كنا ساطورا في حلق الديكتاتور، وما زلنا في حلق ما شابه.

الساطور كان كأنسان في نعومةِ الطفولة ، ولهذا كان حاداً قاطعاً ضد كل ما يمس هذا الانسان ، وكطفلٍ مُشاكس خرج من البلاد، وعاش في المنفى كي يبقى بريئاً وشفافاً وحقيقيا، وما ارتد عن براءته ولا حاد ، ولم يعرف إلى غير ذلك سبيلا.

لقد انفرد هذا الساطور وتفرد وإن لم يعش في البلاد منذ خروجه

هو الحسن الدمث منذ نعومة أظافره حتى مشيبه ، في رسومه وما يشكل وضوح الجمال وقوة الحرية ، وروح التهكم والسخرية من العابثين بالحياة ،القُساة مع البشر والمُتسلطين على أوطانهم.

كيف تعلم أن يكون على الهامش وفي قلب البلاد التي نفى نفسه منها ساعة طغى الطغاة عليها، وكيف تسنى لهُ أن ينأى مُفردا ، وأن يعيش وحيدا في بلاد الإنجليز هو من لا يملك من الدنيا إلا حطامها، هناك تعلم أن يتعلم ، هناك عاش كليبي زاده من بلاده زاد كل صحراوي : اجادة البحث عن الحياة ، حيث الحياة على الحافة.

لم يُغادر بنغازي مدينته التي أبت مغادرته ، لم يُغادر السقيفة سقيفة بيتهم التي تعلم على أرضيتها المُسفلتة بالإسمنت الرسم بالطباشير، في حي سيدي خربيش أخذت الطفل فيه البواخر المغادرة للميناء ما يقع قدام بيته وقد شده ما يرسم دخان مداخنها في الأفق، في الأزرق غطست روحه وفي البياض تشكل : مُسافرٌ زادهُ الخيال كان...

لماذا الساطور وهو من حدتهُ كما براءة الطفولة، لما هذا التهكم الزاخر والسخرية المُزدهرة ، وهو الخجل في ذاته ، وهو حياء المترفعين عن الصغائر، وهو الصموت وهو السكينة وهو البساطة ، وهو قليل الحيلة والحال المرهف ، والشفاف حد البلور، لما الساطور وهو الحسن في رقته من يهاب ظل العصافير الطليقة، ما الساطور وحسن دهيميش عاش في كنف أب باعث للسكينة بالتراتيل القرآنية كقارئ معروف في البلاد ، كيف له أن يكون ما ليس في حسبانه كمُحارب لا يكلَ ولا يملَ للديكتاتور وعسفه ، هذا الفنان التلقائي عاش تلقائيته ولم يستسلم أبدا.

ما العلاقة بين حسن دهيميش ومحمد الزواوي غير الرسم الساخر، وأنهما أصيلا مدينة بنغازي ، ثمة علاقة أن الزواوي هذا الكاريكاتوري الكبير سمى رسومه بالناقوس ، وأن دهيميش سمى نفسه بالساطور ، فما الذي يعنيه ذلك غير أن دهيميش ظل المعارض وأن الزواوي هادن النظام السياسي ، ويبدو أن الموقف قد فصل بينهما ، ولهذا لم يكن دهيميش تلميذا لهذا الصرح الكبير في فن الكاريكاتير الزواوي من خرج الكثير من الفنانين من عباءته.

لقد انفرد هذا الساطور وتفرد، وإن لم يعش في البلاد منذ خروجه منها في مُقتبل العمر ولم يعد مرة فإن البلاد عاشت فيه حتى النفس الأخير.