Atwasat

بلد الطيوب و(القناطش)

محمد عقيلة العمامي الثلاثاء 26 أبريل 2016, 10:33 صباحا
محمد عقيلة العمامي

منذ بداية 2012 كثر الهمز واللمز، عن قوارض بدأت تتوالد، تتكاثر ليس في النفايات، وإنما في دوائر الدولة (قناطش) توحشت، واكتنزت. لم يعد يحلو لها تناول قهوة العشية، في كورنيش الإسكندرية، بل صارت تفضلها في فنادق الخمس نجوم، خصوصا (فيرمرمونث) القريب من مطار القاهرة، وما زلتُ مستغربا كيف أنهم لم ينتبهوا إلى (الريتز كارلتون) ذي السبع نجوم الذي حل محل هيلتون القاهرة فهو أفخم ويطل على النيل، وقريب من ستوديوهات القنوات الفضائية. كانتْ هذه القناطش في البداية تقتات من المهمات، الطواريء والاجتماعات؛ آهو مئات، وأحيانا آلاف من اليورو وإن ضاق الحال وكثر الطامعون في المشاركة تقسم الغنائم بسعر الدولار. ولكننا صرنا نسمع عن أرقام فلكية: ملايين تنهب من التموين، الصحة، الجرحى، السلاح، الكهرباء والنفط. المتدربون في النهش في الدوائر الصغيرة مجرد هواة، لا ينالون اهتماما، لدرجة أن أحدهم لم ينقص ما نهبه إلاّ الوف بسيطة عن المليون، في توريد منظومة، اشتكي لرفيقه في جلسة سمر أن الذين "يعدوا" من (الفيسبوكيين) لم يرقوه إلى خانة المليونيرات، باعتبار أنه من الذين" يقبضوا".

الهوام الكبيرة تنهش ليل نهار في ليبيا: منهم الأطباء، ومنهم الاقتصاديون، ومنهم الإداريون، ومنهم رجال دين، وقضاة، وطبعا رجال أعمال (بطاله) ومنهم (مُتثورين) بشفرة واحدة ومنهم بشفرتين، وجميعهم يعلقون أيقونة علم ليبيا في سترتهم، عند القلب مباشرة. لو استمر الحال سوف ننتهي إلى دولة مفلسة تتسول قوتها من دول العالم. ولقد بدأت بعض الأصوات المطلعة (الشريفة) وهي قليلة، من أولياء أمرنا تؤكد أننا نتعرض إلى عملية نصب كبيرة، من أبناء ليبيا، قبل أبناء الزنا. ولا أعتقد أن مواطنا واحدا مهما كان بسيطا لا يعرف هذه الحقيقة. بلادنا تتعرض، أيضا، إلى تزوير مُمنهج لمستندات المواطنة، ومستندات الجنسية وتزوير وثائق ومستندات الأملاك والعقارات، فاقت نتائجها جريمة حرق السجل العقاري. ولكن أحد رجال الحكومة الجديدة انتبه إلى خارقة أكثر جدوى وفاعلية: سوف يحل مشكلة الهجرة إلى إيطاليا، إذ يبدو أنه انتبه إلى أن الفرق ما بين ليبيا وليبيريا هو حرف واحد، وأن سنة 1848 ليست ببعيدة جدا وأن المكسب عن رأس الفرد العائد من أوربا، أجدى بكثير من الذاهب إليها، ناهيك أنه عمل تحت الشرعية والإنسانية!. هذه الأمثلة هي في الواقع مجموعة أمراض سرطانية قاتلة، أخشى أنها لن تتركنا إلاّ جثة هامدة، ومفلسة.

سنة 2012 اقترحتُ تأسيس كيان مدني، جهة رقابية، لها سلطات الرصد والبحث والتحقيق ثم كشف المستور. فتصدى لمقترحي بعضهم وقارنوه بمحاكم التفتيش التي ابتدعتها (إيزابيلا) ملكة أسبانيا بعدما أسقطت دولة الأندلس سنة 1492، ولم يهل القرن الخامس عشر حتى فرّغت أسبانيا من المسلمين واليهود ولم يبقَ بها سوى قلة، هم (المورسكيون) الذين تنصروا شكليا، وأحيانا فعليا. لم يعد بأسبانيا الآن غير المسيحيين. لقد نجحت، إذن، محاكم التفتيش في تحقيق هدف قومي، ولا شأن لمن نفذوه بوجهة نظر تخالفهم. فالنتيجة، من وجهة نظر الآخر، مجدية وناجحة للغاية. صحيح أنهم اتبعوا أساليب غاية في الوحشية، ولكن الفكرة كانت ناجحة في حفاظهم على الدولة التي يريدونها. بقي أن نعرف أن محاكم التفتيش تأسست بمبادرة شعبية غير رسمية، هدفها مساعدة الدولة في القضاء على أية جيوب قد تسبب قلاقل، أو أن تكون نواة لعودة من يرونهم محتلين، ونحن عندما نؤسس كيانا بالطبع ليس كمحاكم التفتيش، وإن كان يتفق معها فى كونه مؤسسة مدنية مهمتها مساعدة الدولة في كشف بؤر الفساد، فإننا نحمي بلادنا من التدليس والتزوير والنهب وسلب ثرواتنا. فالناس الآن، وهم يتسامرون أمام بيوتهم في قرى ومدن ليبيا، وفي المقاهي، وفي جلساتهم الخاصة؛ يعرفون من أثرى من تجارة السلاح، ومن أثرى من سرقة معسكرات الشركات المحلية والأجنبية المتعاقد معها، والتي سوف تعوضها خزينة بلادنا بحكم القانون، وبما يقدره الخبراء، وفوق ذلك ما قد يتصيده جرذ ويضاعفه من أجل عمولته. والناس يعرفون من اختلس من مخصصات إدارة الأزمة، ومن استلم مساعدات ولم تصل مستحقيها، ومن استلم قيما من قطر مثلا، أو من أية جهة أخرى.

ومن اختلس وتاجر وسمسر في مخصصات علاج الجرحى وذوي الأمراض المزمنة، وفي الغذاء والدواء. والأهم من ذلك كله معرفة هؤلاء الذين يريدون ليبيا أن تظل هكذا: مجرد"عراسة". والناس تعرف من كان قبل ثورة 17 فبراير لا يملك إلاّ عيني صاحبته وغمة ديونه، فصار يملك مزرعتين وعددا كبير من السيارات والمحظيات. مثل هذه النماذج، تحتاج إلى تكتل شعبي لا يهدف للانتقام، أو لتصفية حسابات، بقدر ما يهدف للمحافظة على رزقنا وزرق أطفالنا، والمحافظة على أمن وأمان بلادنا. إن الذين يعرفون كيف يصلون إلى مثل هذه النماذج هم جيرانهم ومعارفهم و ندماؤهم. ناس عاشوا وسطهم، ويعرفون الصالح من الطالح ولابد أن من بينهم من يخاف على بلاده، وأيضا من ربه. إن كشف مثل هذه البؤر يحتاج إلى كفاءة متخصصة، كأن يعرف أسرار التنفيذ الشكلي للعطاءات، والممارسات المفتوحة، والمقفولة، والتكليف ونظم المعاملات التجارية. وأفضل السبل لتحويل العملة، وخبايا العمولات والمعاملات، ناهيك رجاحة العقل، والثبات ومعرفة القانون واحترام حقوق الإنسان، و فوق ذلك كله خشية الله في السراء والضراء؛ عندئذ لا يكون مثل هذا التكتل، أو التجمع، أو الهيئة، أو اللجنة شكلا من أشكال محاكم التفتيش، وإنما حراسا حقيقيين للوطن ومقدراته، وجنودا لمن نختارهم لقيادة بلادنا، فدعونا نؤسس هذا الكيان (الخدمي) الخيّر في قرى ومدن ليبيا كلها، قبل أن يؤسس هؤلاء اللصوص تكتلا منظما سوف يسلبنا، فيما بعد، وبالقانون الجنيهات التي ستجمعها منا الدولة- بعد أن تعلن إفلاسها- كضرائب أو كغرامات عن استهتارنا. فمن منا لا يعرف أن كثيرين من رجال الدولة ينبغي أن يكونوا في قفص اتهام، وليس في منصة الادعاء؟

هذه دعوة تحتاج إلى دماء شابة جديدة تؤسس، بأسلوب قانوني وحضاري، لمثل هذا العمل الجبار. أليس مثل هذا التكتل أفضل من مجموعات التشاور والتدبر والنصح، التي يصل حماسها حد الصراخ، ثم تنتهي مجهوداتها في سلة المهملات. فمن وصلوا منصات الحكم، التف حولهم الخبراء يفسرون لهم فلسفة الحكم وسبل المحافظة على رؤوسهم وكراسيهم، وما خططوا له سينفذ وإلا ما كان مندوبهم يطلب توفير ممرات آمنة لمن زرعوا ألغاما أسفل كل (قرمية قعمول) في وطن الشيح والشبرق سابقًا.