Atwasat

نريد السلام: تغليب المصلحة الوطنية

البدري محمد الشريف الجمعة 17 يوليو 2015, 06:00 مساء
البدري محمد الشريف

عندما تمر الدول بفترات صعبة في تاريخها وتتعرض لأخطار جسيمة مثل حالات الحرب، والأزمات الاقتصادية أو تعيش توترات مجتمعية خطيرة تهدد الأمن العام والاستقرار فإن السياسيين على اختلاف توجهاتهم ومذاهبهم يتركون خلافاتهم السياسية جانبًا ويقفون صفًا واحدًا في مواجهة هذه المخاطر. عادة ما يلجؤون في مثل هذه الحالات إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية قوية تحظى بالتأييد الواسع ويتعاون الجميع معها من أجل بسط الأمن وتحقيق الاستقرار، فالقضية حينئد قضية وطن، الذي هو فوق كل اعتبار، أو هكذا يجب أن يكون.

في الشقيقة تونس تحصلت النهضة على 41 % من الأصوات في انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011م، وتلاها كل من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بنسبة 13.8 %، ثم حزب التكتل من أجل العمل والحريات بنسبة 9.6 %. شكلت هذه الأحزاب ما يعرف بالترويكا الحاكمة في تونس، حيث توزعت رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة المجلس التأسيسي بينهم.

شهدت فترة حكم الترويكا الكثير من المشاكل؛ حيث عجزت حكومة الترويكا عن تلبية المطالب الشعبية، وأصيب الشارع التونسي بخيبة أمل كبيرة نتيجة اتهامات بانتشار الفساد، وتدهور الأوضاع الأمنية وازدياد البطالة، وتفشي مظاهر العنف.

تونس ما زالت تعتمد نهج التوافق السياسي والشراكة في الحكم.

كما أدى اغتيال أفراد من الجيش في جبل الشعانبي واغتيال المعارض شكري بلعيد والنائب في المجلس التأسيسي محمد البراهمي إلى تفاقم الأزمة واتساع رقعة المعارضة للترويكا الحاكمة. ارتفعت المطالبات الشعبية بحل المجلس التأسيسي، إلا أن هذا المطلب لم تؤيده بعض القوى السياسية ومنها الاتحاد التونسي للشغل، لأن ذلك يترك البلاد في فراغ مؤسساتي لا تعرف عواقبه.

في هذا الجو السياسي الخانق تقدمت مجموعة من المنظمات بمبادرة الحوار الوطني التونسي برعاية كل من الاتحاد التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين بتونس، وهو ما يعرف بمبادرة الأربعة، وقد حظيت هذه المبادرة بتأييد رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس المجلس الوطني التأسيسي.

عقدت جلسات الحوار بين كافة الأطراف السياسية التي بالسلطة والتي خارجها، وتضمنت المبادرة التي اتفقت عليها كافة الأطراف السياسية الفاعلة في تونس وضع خارطة طريق للعملية السياسية، وتشكيل حكومة كفاءات جميعها من المستقلين، ولم تشارك فيها أي من الأحزاب وتنازلت النهضة عن رئاستها للحكومة.

رغم إجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية في ما بعد وفوز حزب نداء تونس بأغلبية كبيرة في سنة 2015م، إلا أن تونس ما زالت تعتمد نهج التوافق السياسي والشراكة في الحكم من أجل إيجاد أرضية موحدة وقوية لمواجهة المشاكل المستعصية التي تواجهها البلاد المتمثلة أساسًا في الإرهاب وتفاقم المشاكل الاقتصادية.

نحن في ليبيا مشاكلنا أضعاف ما تواجهه تونس، حيث نعيش في دولة هشة انهارت فيها كافة مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والقضائية، وفقدت الدولة سلطتها على غالبية مناطق ليبيا ويمكننا بإيجاز تحديد المخاطر التي نواجهها فيما يلي:

مخاطر التقسيم
يعد هذا الأمر أحد الأخطار التي أشار إليها كثير من المسؤولين السياسيين الليبيين، وأشار إليها أيضًا بعض قادة العالم وكثير من التقارير الصحفية. ويجد هذا التخوف مرتكزاته على أرض الواقع، حيث ازدواجية السلطة بكل مؤسساتها: مجلسا نواب وحكومتان وجيشان، إضافة إلى ما يجري الآن من عمل لإنشاء مؤسسات موازية مثل المصرف المركزي ومؤسسة النفط وديوان المحاسبة وهيئة الاستثمار وغيرها. ويلاحظ بكل أسف أن بعض وسائل الإعلام تسهم في تعزيز النزعات الجهوية وبث الفرقة بين مختلف المناطق في ليبيا.

الوضع الإنساني
يعتبر الوضع الإنساني في ليبيا كارثيًا حيث فقد عشرات الآلاف من المواطنين مساكنهم واضطروا لتركها والنزوح إلى مناطق أخرى وذلك نتيجة الصراع المسلح في غرب البلاد وشرقها الذي اندلع في شهر يونيو 2014م، ويعيش هؤلاء النازحون أوضاعًا معيشية وصحية سيئة للغاية. وتفيد المعلومات المتوفرة لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بأن عدد النازحين داخل البلاد قد تضاعف إلى أكثر من 434 ألف نازح منذ سبتمبر 2014م.

والرقم يمكن أن يكون أعلى وذلك لأن قدرة حصول المفوضية على المعلومات محدودة وتقوم بإدارة أعمالها عن بعد (1). وأشارت المفوضية إلى أن النازحين يعيشون أوضاعًا صعبة؛ حيث يقيمون في مبان مؤجرة ومدارس ومبان خالية، كما أن بعض النازحين في بلدة غات يعيشون في خزانات المياه الفارغة.

وتعاني الكثير من الأسر الليبية مشاكل عدة في انقطاع أبنائها عن الدراسة؛ حيث توقفت الدراسة ببعض الجامعات لفترات طويلة وتعرضت جامعة بنغازي للتدمير الكامل والتخريب بسبب القتال الدائر في مدينة بنغازي. ويعاني المواطنون بشكل عام نقصًا في المواد التموينية وارتفاعًا في الأسعار ونقصًا في البنزين والغاز والانقطاعات المستمرة للكهرباء لساعات طويلة في اليوم. بل للأسف الشديد أصبحت ليبيا تتلقى المساعدات الغذائية للنازحين؛ حيث يقوم برنامج الأغدية العالمي بتقديم المساعدات الغذائية للنازحين في شرق البلاد وغربها (2).

هذا كما تجدر الإشارة للمهجرين الليبيين الذين يعيشون في الدول المجاورة وخاصة في مصر وتونس والجزائر والمغرب والنيجر، والذين يقدر عددهم بمئات الآلاف وما يعانونه من ظروف معيشية صعبة للغاية وينتظرون يومًا تستقر فيه الأوضاع في بلادهم ليعودوا إليها.

الأوضاع الصحية
يشير تقرير المنظمة الدولية للصحة بأن المنظومة الصحية في ليبيا قد انهارت، وأن المعارك التي اندلعت في يونيو 2014 قد أدت إلى نهب وتدمير المخازن المركزية للأدوية في طرابلس في يوليو 2014، وبنغازي في أغسطس من نفس العام، الأمر الذي أدى إلى نقص خطير في الأدوية والمعدات الطبية والمستلزمات الطبية، كما أن منظومة الإسعاف المستعجل بما في ذلك سيارات الإسعاف قد تعرضت للسرقة والنهب وتوقفت عن العمل كثير من المستشفيات ومراكز غسيل الكلى وغيرها من المرافق الصحية (3). ويشير التقرير أيضًا إلى نقص كبير في الأطقم الطبية بسبب سفر الممرضات والفنيين الفلبينيين الذين يمثلون غالبية الأطقم المساعدة بالمستشفيات الليبية. وخلص التقرير إلى أن الوضع الصحي في ليبيا كارثي، ويتطلب إجراءات عاجلة لتوفير الحد الأدنى من الخدمات الصحية اللازمة.

الحالة الأمنية
يشهد الوضع الأمني تدهورًا كبيرًا حيث زادت معدلات الجريمة بشكل غير مسبوق وأصبحت عمليات الاختطاف للابتزاز المالي وعمليات السرقة المسلحة منتشرة في كل أنحاء البلاد، ولم يعد المواطنون يأمنون لا على حياتهم ولا على ممتلكاتهم. وتشهد مدينة سبها على وجه الخصوص، خلال الفترة الأخيرة، رقمًا قياسيًا في عدد جرائم السرقة والاختطاف والقتل؛ حيث بلغ عدد القتلى خلال الربع الأول من سنة 2015 حوالى 70 شخصًا في حين بلغ عدد المختطفين خلال نفس الفترة حوالي 75 شخصًا من مختلف الجنسيات.

وقد زادت وتيرة العنف خلال شهر رمضان؛ حيث وصل عدد القتلى نتيجة الجريمة إلى حوالى 30 قتيلاً خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من شهر رمضان. الوضع ليس أحسن حالاً في باقي المناطق، فالسطو المسلح وعمليات الاختطاف والقتل أصبحت جزءًا من الواقع المعاش يوميًا بمختلف المدن الليبية نتيجة لغياب الدولة وتفكك أجهزتها الأمنية.

الوضع الاقتصادي
دخلت ليبيا إلى مرحلة اقتصادية ومالية صعبة للغاية نتيجة استمرار القتال، وعدم وجود الاستقرار، وتوقف الكثير من الأعمال نتيجة الأوضاع الأمنية الصعبة. ويشير تقرير البنك الدولي (4) إلى أن غياب الاستقرار السياسي واستمرار الاقتتال قد أديا إلى تفاقم الأوضاع المالية والاقتصادية.

لقد أدى تدهور الأوضاع الأمنية إلى انخفاض إنتاج النفط إلى 500 ألف برميل يوميًا خلال سنة 2014 حيث كان في سنة 2013 حوالي مليون برميل يوميًا، الأمر الذي نتج عنه انخفاض كبير في الناتج المحلي؛ حيث أشار التقرير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي كان في سنة 2012م حوالي 82 بليون دولار، وقد انخفض إلى 41.2 بليون دولار في سنة 2014 مما أدى إلى انخفاض معدل دخل الفرد السنوي من 12800 دولار إلى 6600 دولار في السنة لسنة 2014.

في ليبيا... نعيش في دولة هشة انهارت فيها كافة مؤسسات الدولة.

وأشار التقرير أيضًا إلى أن ظروف الحرب وعدم الاستقرار قد أدت إلى تقلص النشاط الخاص بشكل كبير، مما أدى إلى نقص أكثر من 50 % من المداخيل غير النفطية. كما أشار التقرير إلى أن التوقعات بالنسبة لسنة 2015 تعتمد بشكل كبير على ما يصل إليه الحوار السياسي! وحتى في حالة الوصول إلى اتفاق سياسي وتشكيل حكومة وحدة وطنية فإن إنتاج النفط سيظل في مستوى منخفض إلى حين إصلاح وصيانة المنشآت النفطية. إلا أن التقرير يشير إلى أنه على المدى المتوسط فإن الاستقرار السياسي سيؤدي إلى تحسن الاقتصاد وتعافيه وتحسن الوضع المالي للدولة وزيادة النمو الاقتصادي بمعدل 5.5 % وستستطيع الدولة تحقيق التوازن في احتياجات النقد الأجنبي.

خطر الإرهاب... داعش!
يمثل الإرهاب خطرًا حقيقيًا على ليبيا ومستقبلها حيث أدت الصراعات بين الأطراف السياسية المختلفة إلى إعطاء فرصة كبيرة للإرهاب كي ينمو ويعزز مواقعه في مختلف المناطق. لقد وصلنا الآن إلى حالة تمكنت فيها التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش من فرض سيطرتها الكاملة على بعض المدن، ومنها درنة وسرت كما يحاول التنظيم فرض وجوده في بنغازي وإيجاد مواقع له في طرابلس. وتشير التقارير إلى تمدده نحو الجنوب ومحاولته السيطرة على الجفرة وتوجهه للسيطرة على المناطق النفطية، كما أصبح يهدد مصراتة ويقوم بعمليات إرهابية داخلها من أجل التمهيد للسيطرة عليها وفتح الطريق أمامه لطرابلس.

وتشير بعض التقارير إلى قدوم أكثر من 5000 "جهادي" متطوع إلى ليبيا من مختلف دول العالم والتحاقهم بداعش في ليبيا. ويواجه الجيش الليبي التابع للحكومة الموقتة صعوبات كبيرة في توفير الأسلحة والتجهيزات الخاصة نتيجة الحظر الدولي على بيع الأسلحة لليبيا رغم مطالبة الحكومة للمجتمع الدولي بدعم الجيش لمكافحة الإرهاب.

أدت الصراعات بين الأطراف السياسية المختلفة إلى إعطاء فرصة كبيرة للإرهاب كي ينمو ويعزز مواقعه في مختلف المناطق.

وتُبدي كل من أميركا وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية اعتراضها على رفع الحظر على مبيعات السلاح لليبيا حتى يتم الوصول إلى اتفاق سياسي وتشكيل حكومة وحدة وطنية. هذا، وقد صرح فيليب هاموند وزير خارجية بريطانيا بأنه من غير الممكن رفع الحظر عن بيع السلاح لعدم وجود جيش موحد في ليبيا يمكن أن يقدم له المجتمع الدولي الدعم والمساندة (5).

هذا وضعنا الحالي باختصار شديد. وهو وضع صعب للغاية يتطلب منا التفكير بشكل جدي في البحث عن حلول وتغليب المصلحة الوطنية من أجل إنقاذ ليبيا قبل أن يكون الوقت متأخرًا جدًا. لا مبرر مطلقًا أن تستمر الأمور على ما هي عليه من تخريب لكل ما هو على الأرض من عمران ومن قتل وتشريد لآلاف الليبيين من أجل أن يحكم هذا أو ذاك.

الحوار ونتائجه تتناول مرحلة موقتة لمدة سنة أو يزيد قليلاً من أجل تهيئة الظروف والمناخ الملائم لكي يتمكن الليبيون من إبداء رأيهم ويختاروا من يريدون ليحكمهم بإرادتهم الحرة ووفق آليات ديمقراطية تؤكد على حرية الرأي والتعبير والتداول السلمي للسلطة.

إن ما وصل إليه الحوار الوطني في الصخيرات برعاية الأمم المتحدة وتوقيع مختلف الأطراف على مشروع الاتفاق السياسي لحل الأزمة الليبية يعد فرصة تاريخية لنا للخروج من المأزق الذي تعيشه بلادنا والبدء في إعادة بنائها كي تكون وطنًا آمنًا لكل الليبيين دون استثناء.

________________________________

(1) مركز أنباء الأمم المتحدة 31/6/2015
(2) مركز أنباء الأمم المتحدة 4/6/2015
(3) World Health Organization, Libya, Situation Report NO.1, 14 August 2014.
(4) The World Bank, Libya, Overview, Mar 31, 2015.
(5) Newsweek, 5000 Foreign Fighters Flock to Libya as ISIS calls for
Jihadists, 3/3/2015