Atwasat

ليبيا...الأنوثة الشهيدة

نورالدين خليفة النمر الخميس 16 يوليو 2015, 05:48 مساء
نورالدين خليفة النمر

في بحثه في أطوار الشخصية الفردية يرى العالم النفساني "كارل غوستاف يونغ" أن طورها الثاني يتأسس في الصورة المتوازنة لتميز الشخصية وتفردها عن طريق المواجهة أو اللقاء مع (الصورة الروحية) التي يدعوها "يونغ" استنادًا على المعجمية النفسانية "الأرسطية" "الأنيما" الأنثوية في الرجل، و"الأنيموس" الذكوري في المرأة.

ولكن كما تبين لاحقًا للباحثة "يولاند جاكوبي" في كتابها (علم النفس اليونغي) أنه: في الأزمنة المضطربة على نحو مميز كزماننا ــ في إشارة لحقبة ما بين الحربين العالميتين التي عاشها جيل "يونغ" في أوروبا ــ غالبًا ما تهيمن أشخاص "الأنيموس الذكوري" فتتمظهر قائدًا سياسيًا أو حربيًا وإذا ما كانت الصورة الروحية، وهي العنصر الجنسي المقابل في النفس، قد غرقت حسب "جاكوبي" بعمق في اللاوعي، ولعبت، بالتالي دورًا حاسمًا جدًا ومفجعًا في مصير الإنسان الغربي، فإن اللوم يقع على عاتق الحضارة أو الثقافة الغربية الموجهة على نحو بطرياركي (أبوي).

في محيطنا العربي الثقافي والسياسي الراهن والذي تمثل ليبيا أحد أشد أشكاله لا معقولية حيث يهيمن توجه ذكوري "بطرياركي" في ما يسوده من ضروب عديدة ومتشعبة من العنف والانقسام المجتمعي، يؤججه سياسيون! حربيون عديدون يكون من الأجدى للنخبة المثقفة من "قادة الرأي" إن وجدت؟! البحث عن بديل ثقافي سلمي ومتوازن بالتأمل في التجربة "الأتيقية الترنسندنتالية" أي المتعالية التي انعكست في المسار الشخصي النظري - العملي لمتصوفة الإسلام، وهو ما نبه إليه مبكرًا "بول نوّيا" الباحث في بواكير التصوف الإسلامي (القرن الرابع الهجري) في أطروحته "التأويل القرآني واللغة الصوفية""(Nwyia, Paul: Exégèse coranique et langage mystique).

بانحياز أغلب العرفانيين من متصوفة الإسلام إلى البعد المؤنت، في بنية النفسية الإنسانية. ففي تأويله رمزية الشذارت الأخيرة من كتاب محمد عبدالجبار النفرّي "المواقف والمخاطبات" المعنونة بـ"مخاطبة وبشارة وإيذان الوقت" يشير إلى الملفوظ الأمري التخاطبي (أوقفني وقال لي) الذي يخاطب فيه ضمير "الهو" ضميره المقابل المتواشج به "الأنا" في ما أسماه بـ(اللطيفة الإنسانية) في إشارة إلى المرجعية النفسانية "الأرسطية" الممثلة في جدلية (الأنيما - أنيموس) الفاصمة "سلما" للطبيعة البشرية في التجربة الاتصالية الصوفية والمتجلية "صراعًا وتوثّرًا" في المبحث النفساني "اليونغي".

وعلى الدرب ذاته سار البحاثة الشهير "هنري كوربان" في أطروحته "الخيال الخلاق في تصوّف ابن عربي"، لافتًا النظر إلى الحدس الذي يتحكّم في ملفوظات الفص الأخير من كتاب "فصوص الحكم" لمحيي الدين بن عربي، حيث يتسنى للمتصوف أن ينال أعلى الرؤى في التجلي الإلهي من خلال تأمل صورة الكيان الأنوثي، ممسكًا بالتجلي السامي للحق أي بالألوهة الخالقة في صورة الأنوثي الخلاّق. كونه سر النفس الرحماني الذي يعتبر الخلق لديه تحريرًا للموجودات وهو المعنى الذي يجليه "جلال الدين الرومي" في بيت شعري بقوله: (الحق شعاعه "المرأة" لا المعشوقة في ذاتها، إنّها تجلّ للخالق وليس "المرأة" المخلوقة ذاتها).

وهو ما نتبينه فيما تقوله "توني رولف" في تعريفها للشخص في نظرية "يونغ" النفسانية كونه الوظيفة المتوسطة المماثلة بين الأنا والعالم الخارجي المعبر عنه بالغير أو (السوى) في التصوف العرفاني الإسلامي، حيث يكون تنشيط النمط البدئي للصورة الروحية بالتعبير الصوفي (اللطيفة البشرية) في رأي "رولف" حدث له أهمية مصيرية، ذلك لأنه الدلالة الأكثر وضوحًا بأن النصف الثاني من الحياة قد بدأ.

في التجربة المعرفية المعراجية التي تخيرتها هذا "الرمضان"، معايشًا تجلّياتها، متلقيًا عطاياها، مقتبسًا أنوارها لإضاءة ربما ما نحن فيه من واقع مؤلم يبرز "محمد إقبال" شاعرًا ملهمًا، ونهضويًا مصلحًا مجددًا وعارفًا روحانيًا، له فلسفة مميزة في (الذات) كرس لها ديوانين شعريين كاملين، أسمى الأول "أسرار خوذي: أسرار إثبات الذات" وهو منظومة طويلة يوضح فيها الشاعر فلسفته في الذاتية الإيجابية، مجسدًا إياها في صور شعرية.

أما الثاني فهو "رموز بي خوذي: رموز نفي الذات" وهي كلمة فارسية تدل على الأثرة والعجب بالنفس، قلب إقبال معناها كما بين "عبدالوهاب عزام" في دراسته المبكرة شبه المستوفاة عنه "محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره"، والتي كانت من بواكير قرآتي منذ أزيد من ثلاثين سنة، لجعلها قاعدة لفلسفته في التعرف الإنساني على النفس، بغرض تقويتها، وإخراج ما أودع فيها من مواهب.

... انحياز أغلب... متصوفة الإسلام إلى البعد المؤنث في بنية النفس الإنسانية.

ولكن من الصعب أن يتبيّن المرء في الترجمة اليتيمة عن الفارسية التي أنجزها "عبدالوهاب عزّام" بلغة عربية فخمة لديوان إقبال والتي عازها في نظر قراء إقبال الكثير من روح الشعر في بعده العرفاني الصوفي، وهو ما تفطّنت إليه بشفافية شاعرية عالمة الإسلاميات المرموقة الألمانية "آنّا ماريا شمل" التي أسبقت دراستها الرائدة: (محمد إقبال الشاعر النبوئي والفيلسوف Muhammad Iqbal. Prophetischer Poet und Philosoph بتُرجمة متعددة اللغات بينها الألمانية لدواوينه كـ: رسالة المشرق (بيان مشرق) وجناح جبريل (بال جبريل) ورسالة الخلود (جاويد نامه) التي صدّر ترجمتها إلى الألمانية العام 1957 الروائي الألماني الشهير "هرمان هسه" الذي ألهمت روحانية الشرق روايتيه "رحلة الى الشرق، وسيدهارتا"، مشيرًا إلى المنابع الروحية التي تدين لها أعمال إقبال المتمثلة في التجربة القرآنية والفيدنتا الهندية والتصوف العربي الفارسي إلى جانب تأثيرات الفلسفة الغربية عن طريق معرفته "بنيتشه" و"برغسون" ولكنْ "المسافرون روحيًا" إلى الشرق ومنهم "هيسه" نفسه لن يلتقوا عبقرية إقبال فقط في ثقافته الواسعة وميله الفياض للتأمل، بل أيضًا في قوة حبه، وفي قدرته على التصوير، وسيعجبون به من أجل لهيب الوجد في قلبه ومن أجل صورِه الشاعرية، وسيحبون أشعاره باعتبارها (في إشارة إلى الشاعر "غوتة") الديوان الشرقي الغربي".
تظهر اللغة المدلول المؤنت لكلمة "الحرب"، في الوقت الذي تخفي مضمونها الذكوري المرتبط بالعنف والقتل منذ صراع قابيل وهابيل على الأنثى المذكور في العهد القديم والقرآن حسب البنية الصراعية:

ذكر <ــــــــــ ــــــــــ > أنثى ذكر

حيث يحيق الصراع الذكوري بالأنوثة، فتكون ضحيّته، بل شهيدته وهو البعد الذي ربما لفتت "أنّا ماريا شمل" النظر إليه في كتابها بالألمانية "روحي امرأة.. النفس الأنثوية في الإسلام" M. Schimmel "Mein Seele ist eine Frau Das Weiblisch im Islam"، وهو ما لا يمكنني تأكيده، لضياع نسخة الكتاب مني، ولكن يمكن التدليل بشاهد شعري أوردته "شمل" في كتابها "الشمس المنتصرة: دراسة آثار الشاعر جلال الدين الرومي" عن "الرومي" بقوله: (يعطي الناس بناتهم الصغيرات دُمَىً ليعلّموهن واجباتهن بوصفهن أمهات المستقبل، ويعطون أولادهم سيوفًا خشبية ليعودوهم على القتال والفروسية؛ ولكن في الطريقة يمكن أن يربى قلب الإنسان بالعشق البشري استسلامًا لمراد الحبيب حيث تتلاشى حالا السعادة في مثل هذا العشق).

"الحرب الطرابلسية" العام 1911 ... كان لها الأثر النفسي العميق بأن هيّجت خاطر الشاعر"إقبال"، وجعلت منه عدّوا لدودًا للحضارة الغربية.


في المجال الثاني، السياسي الذي عرف به إقبال الثائر الإصلاحي الذي ألهمت جهوده السياسية إلى جانب أشعاره قيام "دولة الباكستان الإسلامية، حيث يبدو إقبال منهما بواقع المسلمين الذي رسمه قدرهم التاريخي انحطاطًا، فوقعوا ضحية الاستعمار أو الغزو بمدلوله الذكوري المنتهك في الحرب الليبية الإيطالية، آخر خسارات دولة الخلافة العثمانية التي أطلق عليها العام 1911 من قبل النخب الإسلامية المثقّفة "الحرب الطرابلسية"، والتي وجدت صداها عربيًا وإسلاميًا في أدبيات المفكرين من مصلحي القرن 19 أمثال شكيب أرسلان ومحمد رشيد رضا وعمر طوسون وعبدالعزيز الثعالبي، والتي تجاوب أيضًا مع أصدائها محمد إقبال في بواكير أشعاره التي حواها فيما بعد ديوانه الأول صلصلة الجرس (بانك درا) الذي ترجمه نثرًا، وصاغه شعرًا محمد الصاوي شعلان، منتقيًا للترجمة بعض القصائد مهملاً أخرى أبرزها القصيدة المكرسة لتخليد "فاطمة بنت عبدالله"، الشهيدة الليبية التي سقطت ضحية هذه الحرب والتي ليس بين أيدينا إلا ملخصها الذي قدمه العلامة والمفكر الإسلامي الهندي "أبوالحسن الندوي"، الذي اشتهر بكتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين).

في مقدمته لمختارات ترجمها إلى العربية من شعر محمد إقبال العام 1960؛ حيث يشير إلى "الحرب الطرابلسية" العام 1911 بأنها الصدمة التي كان لها الأثر النفسي العميق بأن هيجت خاطر الشاعر "إقبال"، وجعلت منه عدّوا لدودًا للحضارة الغربية والإمبراطورية الأوروبية، بما ملأ شعره حزنًا ووجدًا على حال المسلمين ناعيًا بؤسهم وانحطاطهم، كما يورد أيضًا ملخصًا لقصيدة أخرى بعنوان "هدية إلى الرسول" ومفادها أنه (حضر، أي إقبال، عند النبي محمد فسأله ماذا حمل إليه من هدية؟ فاعتذر الشاعر عن هدايا الدنيا التي لا تليق بمقام النبي وجاءه بهدية هي زجاجة يتجلى فيها شرف الأمة الإسلامية... دمّ شهداء طرابلس)… فما أشبه الليلة في ليبيا بالبارحة!