Atwasat

مشكلة الجيش في ليبيا والتوظيف السياسي لحاجة الناس إلى الأمن

نعيم الغرياني الأربعاء 08 يوليو 2015, 06:24 مساء
نعيم الغرياني

إن ما تميزت به عقود حكم القذافي هو ضعف مؤسسات الدولة وترهلها نتيجة نهج الاستبداد والعبث الذي كان السمة الأبرز لتك الحقبة، ولم تنج من هذا المؤسسة العسكرية ولا غيرها من المؤسسات الأمنية والقضائية وقطاعات حيوية كالاقتصاد والتعليم والإسكان، والتي عانى جميعها من أطروحات القذافي العبثية. ولقد عجزت الحكومات المتعاقبة منذ الإطاحة بنظام القذافي عن إعادة بناء هذه المؤسسات على أسس جديدة وإصلاح تلك القطاعات بما يمكنها من المساهمة في إخراج ليبيا من حالة الفساد والفوضى وغياب الاستقرار وتسارع الانهيار وتصاعد دوامة العنف.

إفساد الجيش
لقد شهدت المؤسسة العسكرية في عهد القذافي تضخمًا لا يتناسب مع احتياجات ليبيا ولا مع عدد سكانها ولا قدرتها الاقتصادية، وكان ذلك على حساب قطاعات أكثر أهمية كالتعليم مثلاً، حتى أن طرابلس الكبرى تضم اليوم عشرات المعسكرات وليس بها إلا جامعة واحدة! وبالرغم من هوس القذافي بعسكرة ليبيا والمجتمع الليبي منذ بداية حكمه إلا أنه كان يخشى الجيش، وهو الذي أتى بانقلاب عسكري، فقام بإفساد الجيش وتفتيته وأخيرًا إهماله، واتخذ لحمايته ونظامه كتائب خاصة تحت قيادة أبنائه ومواليه المقربين، ووفر لتلك الكتائب، دون غيرها من مكونات المؤسسة العسكرية، مستويات تدريب وتسليح وامتيازات أفضل نسبيًا.

وعندما انطلقت الثورة استماتت كتائب القذافي في مواجهة الثورة وفي قتال الثوار والدفاع عن القذافي ونظامه، بينما تفاوتت مواقف تشكيلات الجيش الأخرى بين داعم للثورة ولازم لبيته ومقاوم لها. ولا تخلو بقايا المؤسسة العسكرية اليوم من هذه الفئات الثلاث.

وكنتيجة لأي ثورة شعبية مسلحة في وجه نظام دموي شرس لم يكن ليتردد في القضاء على الثورة بكل ما أوتي من قوة، وجدت ليبيا نفسها أمام مجموعات كبيرة من الثوار والتشكيلات المسلحة تملك كميات هائلة من كافة أنواع الأسلحة، ويرى كثير من المنتسبين لها أنهم من قام بالثورة وأنهم معنيون بحمايتها ضد أعدائها وخاصة المحسوبين منهم على النظام السابق. وخوف الثوار على الثورة وعلى أنفسهم من عودة العناصر والفئات المعادية للثورة تحت غطاء شرعية الدولة، جيشًا كانت أو شرطة، له ما يبرره.

لا يمكن أن نتكلم عن الجيش والشرطة بالإطلاق على أنها مؤسسات وطنية مهنية محايدة

وبالتالي لا يمكن أن نتكلم عن الجيش والشرطة بالإطلاق على أنها مؤسسات وطنية مهنية محايدة، فهذا مخالف للواقع ولا يمكن أن تؤتمن هذه المؤسسات بصورتها الحالية على الثورة ولا على مشروع الدولة المدنية قبل إعادة بنائها على أسس جديدة أو إصلاحها، ولنا في «عملية الكرامة» وقائدها السيد حفتر ومن انضم إليه ممن هو داخل تحت مسمى «الجيش الوطني» خير مثال على وجاهة هذه المخاوف وعلى خطورة تبني الجيش على علاته وتمكينه من السيطرة، في الوقت الذي يراد فيه تفكيك مجوعات الثوار والتشكيلات المسلحة دون تمييز بينها وتجريدها كلها من أسلحتها. وبالتالي لا يُنتظر أن تقبل مجموعات الثوار بهذه المخاطرة الكبيرة.

وتأسيسًا على ما سبق فإنه لا معنى للحديث عن الجيش الليبي وكأنه مؤسسة وطنية محايدة خارج دائرة الصراع وفي حالة طبيعية، ولا بد من الانطلاق من أن إشكالية الجيش والثوار والمجموعات المسلحة معقدة وحساسة وينبغي أن تدرس بعناية وأن تعامل معاملة متوازنة وحذرة، فكلها تضم عناصر وطنية يمكن أن تكون نواة يُبنى عليها جيش جديد وأجهزة أمنية حديثة على أسس ونظم متطورة وعقيدة وطنية صحيحة، وكلها أيضًا تضم أناسًا ينبغي استبعادهم من المجال العسكري والأمني وإعادة تأهيلهم واستيعابهم في مؤسسات ونشاطات مدنية، حكومية كانت أو خاصة، وإحالة من هم في سن التقاعد أو القريبين منها إلى المعاش.

ينبغي أن يُترك بناء الجيش والأجهزة الأمنية من أساسه لحكومة الوفاق الوطني إن أمكن أو إلى حكومة منتخبة بعد إقرار الدستور

إن هذا الإجراء ضرورة ليس فقط للأسباب التي سبق ذكرها، ولكن أيضًا لتخفيف العبء الذي يشكله تضخم هذه الأجسام والمؤسسات المفرط على ميزانية الدولة وعلى حساب تنمية القطاعات المنتجة، حتى أن ميزانية الدفاع بلغت في الأعوام الأخيرة ما يقرب من عشر ميزانية الدولة، وما يمثله ذلك من استنزاف وتعطيل للثروة البشرية في مجتمع محدود العدد وفي حاجة إلى طاقات كل أبنائه في معركة البناء بدلاً من تعطيلها في المعسكرات وحرمانها من المشاركة في التنمية وفي الحياة المدنية.

وبالتالي ينبغي أن يُترك بناء الجيش والأجهزة الأمنية من أساسه لحكومة الوفاق الوطني إن أمكن، أو إلى حكومة منتخبة بعد إقرار الدستور، وفق جملة من المبادئ يتوافق عليها الليبيون. ولا مناص في هذا الصدد من الاستفادة من العناصر العسكرية الوطنية المحترفة والنظيفة والملتزمة بالخيار الديمقراطي والدولة المدنية.

وكباقي مؤسسات الدولة، فإن بناء الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى في المرحلة القادمة يتطلب دعمًا كبيرًا من الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة صاحبة الخبرة في هذا المجال ومن الدول الصديقة والمجتمع الدولي. وإلى أن يتم ذلك، يبقى الحديث عن جيش وطني ليبي مغالطة غير بريئة وتوظيف سياسي لحاجة الناس المشروعة للأمن، وليس أمامنا سوى اللجوء إلى ترتيبات أمنية مرحلية توفر الحد الأدنى من الأمن والاستقرار.
____________________________________

الدكتور نعيم الغرياني أستاذ الهندسة النووية بجامعة طرابلس وسابقًا شغل منصب وزير التعليم العالي والبحث العلمي في أول حكومة ليبية انتقالية بعد انتصار الثورة الليبية، وهو عضو مجلس النواب الليبي وأحد المشاركين في الحوار السياسي الليبي الذي ترعاه الأمم المتحدة عن النواب المقاطعين.