Atwasat

صالح أبوزيد الشطيطي.. حكاية وطن... وأسطورة فارس

زكريا سالم صهد الأحد 28 يونيو 2015, 05:58 مساء
زكريا سالم صهد

هذه الخاطرة هي في الذكري السنوية الأليمة لاغتيال الشهيد بإذن الله صالح أبوزيد الشطيطي، والذي طالته أيادي الغدر والخيانة, ففي 21 يونيو 1984 الموافق 8 رمضان المبارك 1404 هجري سقط المغفور له بإذن الله صالح أبوزيد الشطيطي شهيدًا, إثر اغتياله من قبل أحد المأجورين، عندما رفض العودة إلى "الجماهيرية"، بل وصدح بأعلى صوته معارضًا لنظام الطغيان, نظام الإرهاب والفوضى نظام الجماهيرية, رافضًا إغراءات (لجان الإقناع) التي كانت تجوب عواصم العالم آنذاك لحث الوطنيين الليبيين بالرجوع إلى (الجماهيرية)... ما سأسرده هنا هو في حقيقته قصة وطن تصارعت فيه قوى الخير ضد قوى البغي والطغيان، مجاميع قارعت الظلم ودفعت حياتها فداءً له, وأخرى ارتأت السير في ركبه, ومناصرته والعيش على فتاته.

ولد الراحل صالح أبوزيد الشطيطي بمدينة بنغازي المجاهدة، عاش وترعرع في شوارعها وأزقتها, عرفته أحياؤها ونواديها، ومنذ نعومة أظافره شب على عادات أهل هذه المدينة الرائعة وتشرب أخلاق أهلها الطيبين من كرم وشجاعة ومروءة ونخوة، كان بارًا بوالديه، بشوشًا أحبه كل من عرفه, واستأنس لأحاديثه كل من جالسه, كان مثالًا للبنغازينو الأصيل، كان سي صالح يرحمه الله (ولد بلاد) بحق.... عمل بالتجارة فأفلح وكان كثير الود والإحسان لمن طلب العون والمساعدة. هاجر بدينه تاركًا موطنه، طالبًا الامن والأمان، رحم الله سي صالح رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

يا أيها الوطن المقدس عندنا
شوقًا إليك فكيف حالك بعدنا

كنا بأرضك لا نريد تحولًا
عنها، ولا نرضي سواها موطنًا

في عيشة، لو لم تكن ممزوجة
بالذل، كانت ما ألذ وأحسنا

القصة تبدأ من هنا.....
اسمي لطفي خليفه عسكر (خليفة الجارح)، والدتي من طرابلس والوالد من بنغازي، هذا ما قاله القاتل ردًا على سؤال كان قد وجهه له الضحية الشهيد بإذن الله صالح بوزيد الشطيطي, وكان هذا الحوار قد جرى في فندق مارتا باليونان في يونيه 1984, حيث كان الراحل الشطيطي مقيمًا في أثينا وكان يقصد هذا الفندق يوميًا للقاء ببعض الليبيين المقيمين، يتسامرون ويتجاذبون أطراف الحديث الذي غالبًا ما تطغى عليه مواضيع الوطن وأحواله, وما آلت إليه الأمور والأوضاع، جاء القاتل إلى الهوتيل متسللًا لينظم إلى هذه المجموعة..... وشيئًا فشيئًا وجد نفسه وسط هذه المجموعة تمامًا، يتسامر معهم يوميًا، وقد انجذب إليه الراحل الشطيطي من أول مرة ناظرًا إليه بعين الشفقة والعطف خصوصًا عندما أبلغهم أي القاتل أنه يقطن في أحد نزل أثينا في أحد مناطقها الفقيرة، وأنه جاء "بتحويشة الراتب" لغرض علاج والدته من مرض مزمن عضال تعاني منه منذ سنوات... وفي أحد الليالي دار حديث على انفراد بين القاتل والضحية الذي قال له بالحرف "يا ابني إن علاج هذا المرض الذي تشكو منه والدتك ليس متوفرًا في اليونان ومتاحًا فقط في سويسرا، وحالتي المالية ولله الحمد ميسرة سأرسلكما لتعالجها هناك".

لم يصدق نفسه أن الشخص الذي أتى لتصفيته هو من يعرض هذه الخدمة الجليلة

استمع القاتل إلى كلمات الراحل الشطيطي... لم يصدق نفسه أن الشخص الذي أتى لتصفيته هو من يعرض هذه الخدمة الجليلة، لم تُثن هذه الكلمات العطوفة الأبوية اندفاع القاتل ولم تكبح جماحه الشرير لارتكاب جريمته البشعة، لم تحرك فيه أي مشاعر ولا ولدت إليه أي ردة فعل لمراجعة نفسه حيال ما هو مقدم على فعله، فقد ولد هؤلاء القتلة بلا ضمير، تشربوا أخلاق الغدر والخيانة منذ نعومة أظافرهم، ولاؤهم للشيطان الذي يوسوس إليهم ويزين لهم أعمالهم الشريرة، طمس الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم، تربى هؤلاء وترعرعوا في أجواء الإجرام والرذيلة والكفر والفسق والمجون, فقد كان هذا القاتل محكومًا بالسجن المؤبد بعد إدانته في قضية اغتصاب وقتل في ليبيا, وفي أحد الأيام بينما كان يقضي عقوبته في السجن جاءه أحد رجالات عبدالله السنوسي المدعو عمار الطيف عارضًا عليه الإفراج مقابل أن يكون ابنًا بارًا للثورة، مدافعًا عنها وعلى قائدها... لم ينتظر القاتل وقتًا بل هتف في زنزانته الضيقة بحياة الفاتح وقائده, ليتم تجنيده فيما بعد في مجموعات التصفية الجسدية التي جابت مدن العالم لتصفي المعارضين الليبيين الذين قالوا كلمة حق في وجه الظالم, ليقوم هذا المجرم المرتزق باغتيال الراحل الشهيد بإذن الله صالح أبوزيد الشطيطي... والآن سأقوم بسرد ما قاله هذا المجرم القاتل من اعترافات بالحرف الواحد على لسانه، والتي كنت شاهدًا عليها ومعاصرًا لها في ذاك الوقت, وانشرها اليوم وفاءً وعرفانا لسي صالح الشطيطي، الرجل الشجاع الشهم, أحد رجالات ليبيا الوطنيين, وأحد أبناء بنغازي البررة الذي اغتيل غدرًا وخسة يوم 11 رمضان 1404 الموافق 21 يونيه 1984، مات مضجرًا بدمائه ليلحق بقوافل من سبقوه من الشهداء (ونحسبهم عند الله كذلك) من ابناء ليبيا الذين سطروا بدمائهم أروع صور البطولة والفداء في سبيل الله والوطن... هذه الاعترافات جاءت من القاتل وقد قمت بإضافة بعض التعديلات اللغوية عليها.

سلكت شتى طرق الإجرام من سرقة وسطو مسلح أحيانًا، فكنت أمضي الأوقات في السجون ليتم بعدها الإفراج عني عندما كنت أتظاهر بالسلوك الحسن!

كان والدي عائدًا من المهجر من تونس، جئنا إلى طرابلس أواخر الستينات قبل الثورة، توفيت أمي بعد قدومنا بفترة بسيطة, وتوفي أبي بعدها بسنوات, بقية أنا وشقيقتي إلى أن منّ الله عليها بالزواج من موظف متوسط الحال، أما أنا فقد سلكت طريق الرذيلة بعد تركي للتعليم، فكنت كثير السهر مع رفقاء السوء، أعاقر الخمر وأتعاطى المخدرات بشراهة, كما قمت أيضًا بتهريبها وببيعها، وسلكت شتى طرق الإجرام من سرقة وسطو مسلح أحيانًا، فكنت أمضي الأوقات في السجون ليتم بعدها الإفراج عني عندما كنت أتظاهر بالسلوك الحسن!... إلى أن ارتكبت جريمة اغتصاب وقتل فحكم عليّ بالسجن المؤبد عندها فقط أدركت حقيقة أن الإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة أما في طريق الصلاح أو عكسها... مضت السنة تلو الأخرى وأنا حبيس زنزانة ضيقة عفنة, لا أمل لي في الخروج منها، إنما هو الموت البطيء الذي يلازمني خلف هذه القضبان... إلى أن فاجأني حرس السجن في أحد الأيام وأخبرني أن عندي زيارة، أخذتني الدهشة وقلت في نفسي من الذي يمكن أن يقوم بزيارتي... أهي شقيقتي لالا.. لا يمكن فإنها شقت طريقها وتبرأت مني منذ سنوات طويلة, ولم تعد تأبه حتى لسماع أخباري ناهيك عن زيارتي... ذهبت وراء الحارس والحيرة والاستغراب تراودانني إلى أن دخلنا مكتب مدير السجن فإذا به يستأذن ويتركني مع شخص غريب، لم يطل هذا الشخص الوقت عرف بنفسه قائلًا إنه عمار الطيف وإنه أحد معاوني عبدالله السنوسي، وأن السنوسي درس ملفي بعناية، وبعثني شخصيًا لإعطائي فرصة إخراجي من السجن، لأكفر عن أخطائي وذنوبي وذلك بأن جنديًا مخلصًا لثورة الفاتح وقائدها, والتي كما قال هذا الطيف تحيط بها المخططات الإمبريالية والصهيونية من كل جانب, وتحاك ضدها المؤامرات من كل مكان...اختلطت مشاعري ووجدتني أهتف بحياة الفاتح وقائدها....الخ, فقد كان ذلك بالنسبة لي حلم، فلم أكن أتوقع يومًا أن تطأ رجلي عتبة هذا السجن... لم أكن أرغب وأتمنى شيئًا إلا إخراجي من تلك الزنزانة العفنة بعد أن غلبني اليأس وخارت قواي ولم أكن أرى أمامي إلا الموت البطيء القادم نحوي...., أوكي أوكي تمام سأبلغ إدارة السجن للبت في اتخاذ الإجراءات السريعة لإخراجك من السجن... هذا ما قاله لي عمار مودعًا لي وقد رسم على شفتيه ابتسامةً خبيثة.

خرجت من السجن بعد أن أمضيت أكثر من 7 سنوات, لاستنشق نسيم الحرية من جديد, لم أكن فكرت بعد في ما قاله لي عمار

خرجت من السجن بعد أن أمضيت أكثر من 7 سنوات, لاستنشق نسيم الحرية من جديد, لم أكن فكرت بعد في ما قاله لي عمار, المهم أنا الآن خارج السجن، والقادم لا يمكن أن يكون أسوأ من الذي مضى.. هكذا قلت لنفسي وأنا أدلي برأسي خارج نافذة السيارة المسرعة مستقبلاً تيار الهواء الشديد الذي كان يضرب وجهي. اخترقت السيارة شوارع وأزقة كثيرة لأجد نفسي أخيرًا في شقة "مقر" لتكون إقامة لي كما أمر عمار, والتي كما عرفت لاحقًا أنها أحد مقار الأمن الخارجي. في صبيحة اليوم التالي وجدت نفسي وجهًا لوجه مع عبدالله السنوسي, رحب بي كثيرًا وربت على كتفي قائلًا: ((الراجل ما تعيباش أل*********ولا القتل، اللي تعيب الراجل هي التخاذل على حماية بلاده والفاتح والقائد من الإمبريالية والصهيونية والأعداء والمندسين والخونة الذين باعوا انفسهم... إلخ، هكذا قال السنوسي بصوت خشن مرتفع)), دلف السنوسي إلى صلب الموضوع وأوضح لي أن ثورة الفاتح لها أعداء أجانب متربصون بها وأيضًا أعداء باعوا وطنهم للأجنبي وهم ليبيون يستحقون القتل والتصفية, المهم السنوسي حكى كثيرًا ودخل في مواضيع شتى!, وأخيرًا هنأني على اختيار الثورة لي لأكون أحد جنودها المخلصين.... بقيت مع السنوسي حوالي 3 ساعات، بعدها تحولت إلى إنسان آخر، نعم إنسان آخر, فبعد أن كنت مجرمًا هاربًا منبوذًا مفلسًا, أصبحت أحد أفراد الطبقة المخيملية في طرابلس فتم صرف مرتب كبير لي وشقة محترمة وسيارة فاخرة، وجدت نفسي في سهرات ومناسبات اجتماعية مع علية القوم وأيضًا أصبحت صاحب صلاحيات ورجل مهم... بطاقة أستطيع الدخول بها لأي مكان أو مقابلة أي مسؤول، شعرت أنني خصوصًا في الثلاثة شهور الأولى تحت المراقبة فعملت ما في جهدي لأنجح في امتحانهم، وأظهرت كل طاقاتي من شراسة وقلة رحمه واندفاع غير محدود للذود والموت في سبيل ثورة الفاتح وقائدها، بعدها طٌلب مني السفر إلى باريس للقيام بمهمة، أخذني الحماس وجهزت نفسي للقيام بأول مهامي الثورية، قابلني أحد الأشخاص وأعطاني جواز سفري ومعه تذكرة السفر ومظروفًا به بعض المال، وأبلغني أن السفر غدًا، شكرته وعدت إلى مقر إقامتي لأجد أن المظروف به 50 خمسون ألف دولار "كاش"، لم أصدق نفسي وأنا الذي لم أتمكن من جمع ألف دولار في حياتي، أجدني أستلم فقط مصروف جيبي هذا المبلغ الضخم، أقلعت الطائرة وبعد ساعات من متعة الطيران على متن الدرجة الأولى الفارهة هبطت الطائرة, أسرعت بإنهاء إجراءات الوصول ولملمة حقائبي وذهبت إلى الفندق، بقيت في باريس 10 عشرة أيام لم أقم خلالها بشيء إلا السهر مع بعض الثوريين في فرنسا، أمضيت أيامي في باريس سهر وراحة، إلى أن جاءني أحد الثوريين وأبلغني أن المهمة تم تأجيلها وعليّ السفر إلى طرابلس، عرفت فيما بعد أن الضحية كان أحد رجال المعارضة الليبية, ولكنه لم يحضر إلى باريس كما كان متوقعًا ليتم تصفيته...عدت إلى طرابلس وتعرفت أكثر على جماعة السنوسي، كانوا يتحدثون إلى بعضهم البعض بألفاظ نابية، لديهم كل شيء السلطة والمال, يصولون ويجولون، لا يجرؤ أحد أن يقف في طريقهم، فهم من بيدهم الحل والربط، يستولون على أرزاق وممتلكاتهم الليبيين وينتهكون أعراضهم ويدنسون مقدساتهم، بشر غير الذين نراهم ونخالطهم عادةً، ليس في قلوبهم رحمة، ولاء وطاعة عمياء للقذافي، وكانوا يريدون غرس هذه المعاني في نفسي، لم اُعيرهم اهتمامًا يُذكر فقد تحولت إلى مدمن خمر, مخدرات، وسهر, لم تكن لدي رغبة في البيزنس أو المناصب، كنت فقط أجري وراء اللذة.....وحينما أزور مكاتبهم كنت أرى العشرات يساقون إلى مقار الأمن الخارجي ليُصب عليهم أشد أنواع العذاب والتنكيل، كنت أسمع صرخاتهم وتوسلاتهم من وراء جدران الغرف.....(ها دومًا أعداء القائد يجب سحقهم) هذا ما قاله لي أحدهم وربت علي كتفي لحظة خروجه من إحدى حفلات التعذيب تلك عندما شاهدني في وسط الممر مندهشًا لما كنت أسمع.

وبعد فترة قصيرة استدعاني السنوسي لمقابلته بمكتبه, وفي أثناء اللقاء أفهمني أنني عندما لبيت نداء السفر إلى باريس، ولم أتردد (هذا إن دل على شيء إنما يدل على شجاعتك وتفانيك لسحق أعداء الثورة)، طلب مني أن أجهز نفسي للذهاب إلى اليونان لتنفيذ مهمة أخرى..... رجعت إلى مسكني وكلي اشتياق إلى تمضية أوقات أخرى حلوة في اليونان، هذا ناهيك عن مصروف الجيب السخي، رافقني في هذه الرحلة أحد الأشخاص الذي لم أعرفه من قبل، نزلنا في فندق "الكرافيل" الفخم ذي الخمس نجوم في أثينا، وفي اليوم جاءنا أحد أفراد الأمن الخارجي العاملين في السفارة وأفهمنا أن هناك مجموعات من الكلاب الضالة في الساحة اليونانية، يكيدون الدسائس لثورة الفاتح وقائدها لذلك جب تصفيتهم وسحقهم، (سآمر عليكم بعد بكرة ونعطيكم الاسم، عمومًا خذوا راحتكم وفرهدوا هاليومين) هذا ما قاله لن هذا الشخص مودعًا.

مر علينا هذا الشخص بعد يومين وأبلغي باسم الضحية والذي كان صالح بوزيد الشطيطي، وأفهمني أن الخطة تستدعي التقرب إلى الضحية وزودني بأماكن تواجده, عرفت أن الضحية الشطيطي يأتي تقريبًا كل ليلة ليتسامر مع مجموعة من الليبيين المهاجرين في أثينا حيث يبقى هؤلاء في ردهة الفندق يتجاذبون أحاديث الوطن ويتابعون أخباره اليومية.. على كل حال ذهبت إلى الفندق وشيئًا فشيئًا تغلغلت بينهم منتحلاً شخصية ليبي كادح قدم إلى أثينا لعلاج والدته.. كان أكثر المهتمين بي هو الراحل الشطيطي، فقد اهتم جدًا بقصة علاج والدتي وأخبرني أن علاج حالتها ليس موجودًا باليونان ولكن هناك مستشفى متخصص في سويسرا وقال لي بالحرف الواحد (يا ابني أنا حالتي مستاسعه ولله الحمد سأقوم بإرسالك ووالدتك إلى هناك)...لم أصدق نفسي أن الشخص الذي أتيت لتصفيته هو من يعرض عليّ هذه الخدمة.. رجعت إلى غرفتي وأنا أفكر كيف يكون هذا الأمر، اختلطت مشاعري وارتبكت نفسي، أخذت حبة منوم حتى أستطيع أن أنام في تلك الليلة.

مضى يومان وأنا أفكر في ما جرى من حوارات بينني وبين الضحية، حيث أنه كان ينتظر مني البدء في إجراءات تسليمه التقارير الطبية بغية إرسالها إلى سويسرا

مضى يومان وأنا أفكر في ما جرى من حوارات بينني وبين الضحية، حيث أنه كان ينتظر مني البدء في إجراءات تسليمه التقارير الطبية بغية إرسالها إلى سويسرا... جبت شوارع المدينة وأنا أصارع نفسي في ما يجب عليّ القيام به.... جاءني مسؤول الأمن في السفارة فجأة وسلمني مسدسًا وطلب مني تنفيذ المهمة في أسرع وقت ممكن لأن السنوسي اتصل يستفسر عن التأخير... وجاء اليوم المنشود.. استيقظت مبكرًا على غير عادتي وبدأت بإقناع نفسي أن هؤلاء لا يمكن إلا أن يكونوا خونة وعملاء للأجنبي، تلاشت كلمات الشطيطي الأبوية الحنونة لي واختلطت في زحمة أفكار الكذب على النفس ومجاراة أوهام الشيطان ووسوسته، قررت أن أمضي قدمًا وبلا تردد في ارتكاب جريمتي... ذهبت إلى الفندق وقت الظهيرة لإجراء المعاينة الأخيرة لمكان ارتكاب الجريمة، كان كل شيء يبدو عاديًا، سواء داخل الفندق أو خارجه، تركت الموقع وذهبت لأترجل بعيدًا عن مقر الهوتيل... رجعت بعد غروب الشمس، هذا الوقت الذي كان الضحية دائمًا يأتي إلى الفندق، وكان يركن سيارته في الشارع المقابل للهوتيل، بجانب محطة وقود، كان هذا تقريبًا هو توقيت الراحل الشطيطي يوميًا, انتظرت طويلاً قدومه، كانت الدقائق تخيل إلى أنها ساعات، مر الوقت ببطء شديد جدًا، ومرت الساعتان ولم يأت الضحية.... وبدأت أشعر بالارتباك، ولكنني كنت أطمئن نفسي وأردد كلمات السنوسي أن هؤلاء أعداء الثورة والوطن ويجب القصاص منهم، استهلكت ثلاث علب سجائر في وقفتي تلك وقررت في النهاية أن أرجئ العملية ليوم آخر، شعرت ببعض الارتياح بعد أن قررت التأجيل، وبينما أنا على هذه الحالة وأهم بالرحيل فجأة ظهر الراحل صالح الشطيطي، لمحته من على بعد بضع مترات وهو يركن سيارته فتقدمت من السيارة بسرعة وفي خطوات كنت تقريبًا بجانب باب السيارة، نزل الراحل من السيارة واضعًا قدمه اليسرى خارج السيارة، وبينما هو يهم بالنزول شاهدني واقفًا بجانبه فأخذته الدهشة ونطق باسمي، وبينما كان يهم بتكملة ما سيقوله لي أخرجت المسدس من جيبي وشاهدني مفزوعًا, فقمت بإفراغ عدد من الرصاصات في جسده، سقط الراحل على الأرض وسمعته نطق بكلمة الله ********** لم أسمع بقية جملته... جريت مسرعًا إلى أحد المساعدين في الجريمة الذي كان ينتظرني وأخذني على الموتوسيكل لننطلق بسرعة البرق ونختفي في الزحام..)) انتهي السرد "الاعتراف".

هذا المجرم استطاع أن يختفي في المكتب الشعبي أيامًا إلى أن تم تهريبه إلى ليبيا، وبعدها قال لنا في الاعتراف إنه لم ينم ليلة واحدة في طرابلس منذ رجوعه, حيث كانت تأتيه كوابيس مزعجة، يظهر فيها الراحل صالح الشطيطي ممسكًا برقبته، كان هذا الكابوس ملازمًا لهذا القاتل لقرابة الثلاثة أشهر، حتى قارب هذا المجرم على الجنون ومحاولة قتل نفسه، استطاع بعدها إقناع السنوسي بأنه يمر بحالة نفسيه ويطلب فترة "نقاهة" في فرنسا، فأذن له السنوسي وما أن حل بباريس حتى قام بتسليم نفسه إلى السلطات الفرنسية، والتي حققت معه وسلمته إلى السلطات المصرية والعراقية التي بدورها سمحت لشخصين من تنظيم الجبهة بأخذ أقواله واعترافاته..

رحم الله صالح الشطيطي وأدخله فسيح جناته وغفر لبقية شهداء ليبيا في داخل الوطن وخارجه، وجزاهم الله عنا خير الجزاء على جهادهم، هؤلاء هم من أشعل فتيل الثورة ضد حكم الاستبداد والجور منذ محاولة تغيير النظام في ديسمبر 1969, إلى بزوغ فجر 17 فبراير فهنيئًا لهم، والخزي والعار لمن حاول إطالة عمر ذلك النظام البغيض بالتصالح معه ووضع بعض المساحيق على وجهه الكريه، أيضًا الخزي والعار لمن حاول استثمار تضحيات هؤلاء وتسخيرها لأهدافه ومصالحه وأطماعه الشخصية، ستبقى ليبيا بإذن الله حرة أبية شامخة, وسيبقى طريق شهدائنا الأبرار الذي رووه بدمائهم الطاهرة الزكية نبراسًا وطريقًا على رؤوسنا لنعبر من خلاله ببلادنا إلى شاطئ السلامة ولتنطلق إلى آفاق الخير والنعمة والازدهار.

• الأبيات الشعرية من قصيدة يا أيها الوطن لشاعر الوطن: أحمد رفيق المهدوي