Atwasat

المسمار الأخير في نعش مبادئ الثورة!

صابر الفيتوري الخميس 18 يونيو 2015, 03:19 مساء
صابر الفيتوري

تحطَّم صنم الديكتاتورية في ليبيا بُعيد مخاض عسير وانقسامات أطلت برأسها منذ بدء عملية التغير «الثورة» حول المبادئ والأهداف وكيفية إرساء هيكل جديد وبديل لدولة كانت تعاني أصلاً وهنًا كليًّا في المؤسسات لإنجاح أي عملية ديمقراطية، إلى غير ذلك من تحديات أفرزتها مرحلة ما بعد الإطاحة بالنظام السابق وظهرت بوضوح، لكن الأمر قد حصل وانتهى!!وصار لازمًا التعامل مع المعطيات وفق ما هي عليه لعله يتيح إعادة إنتاج دولة سقطت بسقوط رأسها.

إنَّ سيطرة فكرة «لا شرعية لنظام حكم أربعة عقود ونيف بلا ديمقراطية ولا دستور شرعي» كانت منطلق الجميع نحو التغيير، متفقين على أنَّ الديمقراطية هي الحل والوسيلة الأمثل لبناء الدول وجلب الرفاهية المنشودة، لكن على أي الأسس؟ هذا ما انقسم حوله الجميع.

منذ الوهلة الأولى كان يمكن لأي كان «التنجيم» بأنَّ النظام قد سقط ولم يكن بوسع أحد إعادته للحياة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة مفسحًا المجال لدولة جديدة يؤسِّسها فقط إعلان دستوري صِيغ على عجل لدولة يلتبس فيها مفهوم سيادة الدستور وليس بها دستور سارٍ على اعتبار توقف العمل بدستورها الشرعي 1951 المعدل في 1963، الذي دخل طي نسيان وطن وأمة من أجل أن يبعد شبح عودة الملكية التي يهابها البعض.

جاء الإعلان الدستوري ليجد طريقه للتطبيق في لحظة إجماع وطني على الرغم من عدم المشاركة الشعبية ولا التمثيل ولا الاستفتاء عليه، ليعبِّر عن الآمال ويضمن وجودًا للمكونات المختلفة ثقافيًّا، قبليًّا، جهويًّا وسياسيًّا والتي طفحت على السطح في المشهد مؤخرًا ليصبح بشكل قانوني هو المرجعية الوحيدة المفروضة بالأمر الواقع وانحصرت فيه كل البدائل التي تحقِّق الهدف في الوصول إلى الديمقراطية، وما إغفال مخرجاته إلا منزلق خطير ومرعب.

كان يمكن لأي كان «التنجيم» بأنَّ النظام قد سقط ولم يكن بوسع أحد إعادته للحياة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة

بالتوازي ظهرت تباينات وخلافات صاحبها تفتت مجتمعي وصل لمداه وأدى إلى ما آل إليه الحال من انعكاسات تشكل تهديدًا حقيقيًّا لوجود «دولة موحدة تسمى ليبيا»، بنشوب حرب أهلية واقتتال بين مشاريع متعلقة بالهوية الليبية، فبين مدافع عن أن ليبيا وطن بهوية ثقافية تضم مكونات وطنية هي حصيلة تعايش قبلي وثقافي وحضاري، وبين مَن يعتبر ليبيا جزءًا من الهوية الإسلامية فقط لا غير، حيث برز العراك بين التيارين وشدٌ للحبلِ ألحق تدميرًا مهولاً على شتى الأصعدة.

رسم الإعلان الدستوري خريطة الطريق الصعبة وسط حقول الألغام المنتشرة، وشكَّل الوسيلة الوحيدة للالتفاف حول التغيير المرجو ولاقى قبولاً وإن كان على مضض بالنسبة للبعض بغية الوصول إلى تكون الجسم السياسي التأسيسي الأول الذي استلم قيادة الدولة خلفًا «للمجلس الانتقالي» عبر صناديق الاقتراع، فكان أن ظهر «المؤتمر الوطني العام» لكنه أخفق في إنجاز الاستحقاقات في المدة الزمنية الدستورية المحدَّدة إثر إخضاع الإعلان الدستوري للتعديل من خلال «تعديلات فبراير» نتيجة لما فرضه الضغط الشعبي والحراك المدني المسنود عسكريًّا وقتئذٍ، فاتجهت البلاد إلى مرحلة انتقالية ثالثة فرضها الإعلان الدستوري المعدَّل واستجابة الشارع له دون ما عداه، واستمر المسار الديمقراطي ولم تحقق مراكز القوى الناشئة رغباتها في توجيه مسار التغيير كما كانت تسعى.

من الطبيعي أنَّ التحكم في سلطة القرار لابد أن يستند إلى القانون الذي انحصر في «الإعلان الدستوري» الذي يرى فيه الشارع الآن المَخرج الوحيد والوثيقة الوحيدة التي تحصن مخرجات الثورة، ولن تنال أية سلطة القبول والترحيب، لا محليًّا ولا دوليًّا، ما لم تنل الإجماع داخليًّا بشكل أساسي وإذا سقطت شرعية الداخل تبعها سقوط الشرعية كما هو متعارفٌ عليه من الخارج والشواهد كثيرة في هذا السياق، ولابد من القول إنَّ الفشل الديمقراطي يجب أن يدفعنا إلى مزيد من بذل الجهود لكسب ثقة الناخبين، لا أن يجرنا للكفر بالمسار الديمقراطي الذي يعتبر الأداة الوحيدة القادرة على تحقيق أعلى نسب الرضا الشعبي للوصول لسدة الحكم دون ما يعكر صفو العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

الإعلان الدستوري رسم خريطة الطريق الصعبة وسط حقول الألغام المنتشرة، وشكَّل الوسيلة الوحيدة للالتفاف حول التغيير المرجو

لا يختلف عاقلان على أنَّ الديمقراطية هي مفتاح التغيير والبناء وتصحيح المسارات، لكنها في حاجة لمرونة سياسية وقبول لتمثيل كل الأطراف والأطياف في المجتمع ومشاركتها على كل الأصعدة من خلال شرعية الصندوق والتي يلزمها أيضًا الحصول على التوافق فيما بينها وأيضًا تحقيق مستهدفات واضحة وفق إطار زمني محدَّد، وإلا فالبدائل هي العودة للديكتاتورية وزمن الإقصاء والتهميش الذي لا يعترف بالاختلاف كظاهرة صحية وحركية تقيم اعتبارًا للمعارضة التي في وجودها تكتمل الصورة النموذجية.

إنَّ الإعلان الدستوري صاحب شرعية التوافق لا بديل عنه ومن الضروري أن ينجز دون تطويعه في يد أيٍ كان، ومن الأهمية التعامل معه على أنَّه من الثوابت التي تجعل المسار الديمقراطي مستمرًّا، وكنتيجة لذلك بات التعامل مع مجلس النواب المنتخب على أنَّه صاحب الشرعية استحقاقًا وطنيًّا بامتياز.

مجلس النواب «البرلمان » يتمتع بكامل الشرعية الدستورية وهو جسمٌ وُلد من رحم التغيير الذي جاءت به الثورة وهو ممثلٌ لصوت الثورة الحقيقية التي تسعى لإرساء قواعد الدولة وبدوره ملزم بتحسس المعوقات وتذليلها والحرص على حجم الأمانة التي وُضعت بين يديه، لعدم وجود خيارات أخرى دستورية جاهزة للتطبيق وأي بديل له قد يشكِّل انتكاسة في المسيرة.

في الختام، لابد من القول إنَّه تقع على عاتق نشطاء المجتمع المدني والكفاءات المهنية الوطنية ضرورة ترسيخ واحترام الإعلان الدستوري وتحصينه ضد الموت والضياع كونه يُعبد الطريق نحو الديمقراطية، ويبقي على المسار الذي ارتضاه الجميع، فهو القادر على إخراج ليبيا من أزمتها السياسية والأمنية، وبالمقابل فإنَّ التغاضي عنه وعدم الاعتراف بشرعيته هو المسمار الأخير في نعش مبادئ وأهداف الثورة.