Atwasat

عالمنا وجغرافيته الأورويلية.. مايو 2015

نورالدين خليفة النمر السبت 23 مايو 2015, 08:28 صباحا
نورالدين خليفة النمر

يتجدد في البلدان الديمقراطية هذه الأيام الحديث عن"الأورويلية" الصفة المشتقة من اسم الكاتب"جورج أورويل" وهي الأكثر شيوعا من صفات أسماء كتاب العصر الحديث كـ:( "الديكنزية" و"الكافكاوية" و"الهيمنجوواية") بل إنها تضاهي، إن لم تفق، في شهرتها" الميكافيلية" الصفة التي سبقتها ظهورا واشتهارا في معجم السياسة بخمسة قرون.

الأورويلية"Orwellian": مصطلح دُرج على استعماله في أدبيات السياسة لتوصف به الفكرة أو الوضع الاجتماعي الذي يستخذم آداة لتدمير رفاهية العيش في المجتمعات"الحرة والمفتوحة"!. وهو مشتق من اسم الكاتب"جورج أورويل" الذي شقت كتاباته في مخيّلة أدب السياسة مجالا معاكسا"لليوتوبيا"، نحت له الفكر الغربي اسم الـ"Dystopia " وهو مايمكن ترجمته بما أسماه الفيلسوف الإسلامي" أبو نصر الفارابي" كمضّاد للمدينة الفاضلة: بمخيال"المدينة الفاسدة" الذي حُدّدت معالمه في جغرافية"الضمير الغربي" الممتدّة من برلين، وهي على وشك خسارة الحرب العالمية الثانية، مرورا بباريس ولندن وانتهاء بواشنطن: العواصم الغربية الأربع التي كان يفكّر فيها جورج أورويل وهو يسعى عام 1948 إلى إصدار روايته النبوئية عن عام"1984 ".

في كتابه"جورج أورويل: حياة في رسائل" ينشر"بيتر ديفسون" رسالة كتبها أورويل في 18 مايو عام 1944، قبل ثلاث سنوات من كتابة روايته" 1984"و خمس سنوات من صدورها. ففي جوابه على سؤال"نويل ويلميت" عمّا إذا كانت"الشمولية وعبادة الزعيم-القائد" تلك الآونة في بريطانيا في صعود، رّد أورويل مفصّلا أطروحة الرواية المحذّرة من صعود الدولة البوليسية الشمولية فيها إذا ما صارت دولة حزب واحد، أو، بعبارة أخرى، دولة«الأخ الأكبر». الشرّ الشامل للنظام السياسي الموسوم بـ"التوتاليتارية"وحسبته المضلّلة التي تقول(إن اثنين زائد أثنين تساوي خمسة).

يبدي أورويل من خلال رسالته توجّسه عام 1944من صعود توجّه جديد لشرِّ"الدولة الشمولية". ففي الوقت الذي يتكّهن فيه بتلاشي نسختها النازية باختفاء الزعيم"أدولف هتلر" ونظامه من ألمانيا التي توشك أن تهزم في المعارك. فإن علائم انتهاءالحرب، تبدي استنساخه مجدّدا في بريطانيا دكتاتورا مستبدا بملامح"ستالين" المجسّدة في رواية"1984" في صورة"الأخ الأكبر"، كما سيظهر في فرنسا في صورة ضابط جيش مثل"ديغول"وصفه أورويل"بالطاغية التافه". بينما سيتحكّم، أصحاب الملايين"الأنجلو-أمريكان" في الولايات المتحدة الأميركية.

لقد اعتقد"أورويل" وقت ذاك حسب توّجهه السياسي الاشتراكى المناهض للإمبريالية أن هذه البلدان التي نشأت فيها الحركة القومية المناهضة للصعود النازي لألمانيا المهددة باحتلال العالم

لقد اعتقد"أورويل" وقت ذاك حسب توّجهه السياسي الاشتراكى المناهض للإمبريالية أن هذه البلدان التي نشأت فيها الحركة القومية المناهضة للصعود النازي لألمانيا المهددة باحتلال العالم ، جنحت بدعوى دفع الخطر الألماني إلى إقامة تكتّلات اقتصادية، تستطيع العمل ماليًا ولكنها لا تتمتع بتنظيم ديمقراطي، وهو ما يتوّجه بها إلى إقامة نظام صلب يؤسس لنشوء ما أسماه أورويل"رعب العاطفة الوطنية"، وهو رعب يتماثل ورهاب الإرهاب الذي ما انفك منذ حدث 11 سبتمبر 2001 يزداد استفحالا؛ والذي تستثمره للأسف هذه الأيام سياسات أرسخ الديمقراطيات الغربية وهي تهدف إلى ترويج وتعميم وسائل مراقبة وتجسس تنتهك الخصوصيات الفردية لمواطنيها، وفرض قوانين مقيّدة لحرية الرأي والتعبير. وهو الأمر الذي دفع كاتبا كـ "سام جورديسون" في مقال له في جريدة"الجارديان" البريطانية إلى القول بأن كلمة" أورويلية" تظهر مرة واحدة على الأقل يوميا في وسائل الإعلام البريطانية المهتمة بالسياسات في المجال"الأنجلو أميركي".

إذ يتعرّض رئيس الوزراء البريطاني"كاميرون" لاتهام المحافظين له بأنه"أورويلي" بتوظيفه(حسابات سياسية متدنّية) لتعزيز المساواة فى الحقوق، بينما يتهّم اليساريون وزير المالية البريطاني"جورج أوزبورن" بأنه يشرح الاقتصاد وفق تعبيرات أورويل،أمّا في الولايات المتحدة الأميركية فإن الجمهوريين يتهمّون الهيئة القومية للصحة بأنها أورويلية لأنها تفرض حدودا مالية على قيمة الحياة البشرية. بل تحتوي القصص التى انتشرت فى أمريكا حول"فرق الموت" في سوريا والعراق على الكثير من الأمور التى تتقارب مع المستوى العالي من الهراء الذى روّجت له سلطات دولة"الأخ الأكبر" فى رواية" 1984" ليس فقط فيما يتعلّق باللغة المخادعة عندما تكون الحرب هي السلام، والحقيقة هي الكذب،والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة، بل في الاستراتيجية التي تنمّ عن نفاق أخلاقي، وهو أمر لا وزن له عند الرئيس الأمريكي"أوباما" ولا بطانته في البيت الأبيض الأوفياء لمصطلح"الحيلة الأوريلية" الذي يكون استخدامه أكثر فعالية في هذا السياق. أما" إدوارد سنودن"، المحلل السابق للمعلومات لدى جهازالـ"سي آي أيه " ومسؤول النظم بمنشأة تتبع وكالة الأمن القومي الأميركية، فيفضح، في"الغارديان" أيضا، برنامجا تجسسيا سريا للحكومة الأميركية لمراقبة اتصالات الهواتف والإنترنت المعروف"ببريزم". ويختتم جورديسون المقال بقوله:(أستطيع أن أقول لكم، بعد بحث استغرق عدة دقائق أننا نعيش عصر أورويل، حيث تشن أمريكا حروبا أورويلية، كما أن التليفزيون أورويلى، والشرطة أورويلية، وموقع أمازون أورويلى، والناشرين أورويليون أيضا).

وبمناسبة ذكر النشر وحقوق التعبير ومرور65 عاما على وفاة"أورويل" فإن مكتبة«مارتن لوثر كينغ» في واشنطن تقيم هذا الشهر مايو 2015 سلسلة من الندوات تحت عنوان:(أميركا الأورويلية) توصيفا للقلق الذي ما انفكّ مثقفون أميركيون يستشعرونه إزاء الخطر الذي يواجه حرية التعبير في أميركا منذ حدث الـ 11 من سبتمبر الإرهابي وهو ماتعدّى ماكنا نعتقده همّا مقتصرا على المفكّر وعالم اللغة اليساري الأميركي"نعوم تشومسكي" فيما يوّصفه بظاهرة النقص أو الفشل الديمقراطي في أميركا في كتاباته التي أضحت كلاسيكية في شغبها كـ:("الدول الفاشلة"، و"السيطرة على الإعلام" و" 11 . 9 "وغيرها) لتصبح همّا وطنيا وشاغلا يدّق ناقوس الخطر إزاء ما تقوم به وكالة الأمن الوطني الأميركية"إن إس إيه" من أعمال التجسس وانتهاك الخصوصيات الفردية. وفي السياق ذاته وفي العاصمة الفرنسية"باريس" في 3من هذا الشهر مايو 2015 التأمت مظاهرة احتجاجية تحت شعار"24 ساعة قبل1984" في تلميح لرواية"جورج أورويل" ضد فرض قانون حكومي صيغ بعد ثلاثة أيام من جريمة"شارلي إيبدو" بتوخّي"أساليب مراقبة تنتهك الخصوصية". ولكن المظاهرة لم تحلّ دون تصويت البرلمان الفرنسي لصالح القانون الذي اتّفقت جبهة اليسار وأنصار البيئة(الخضر) والجبهة الوطنية اليمينية التي تتزعمّها"مارين لوبن" على أنّه بمثابة توسيع لرقابة معمّمة يعطي للأجهزة البوليسية في الدولة الكثير من السلطات المفرطة المهدّدة لاستقلاليّة التكنولوجيا التواصلية والاقتصاد الرقميّ.

في ألمانيا التي دشّنت بزوغ الدولة الشمولية في أوروبا القرن العشرين وأدواتها الاستخباراتية والرقابية الحديثة كالجهاز النازي المعروف بأسمه المختصر" الغستابو Gestapo" أو الجهاز الذي ورثه في ماكان يسمّى"ألمانيا الشرقية" والمعروف بـحروفه المختصرة"بالشتازي Stasi " الذي بنى استخبارات دكتاتوريات العراق وليبيا وسوريا صدر بداية هذا الشهر مايو 2015 كتاب مثير، للكاتب"كريستوف رويترChristoph Reuter " وعنوانه بالألمانية"Die schwarze Macht" السلطة السوداء: حول تنظيم الدولة الأسلامية"داعش" واسترايجيته الإرهابية. وحسب مقدّمة الكتاب التي نشرها موقع مجلة"دير شبيغل" السياسية الألمانية "Der Spiegel Onlin " أن الضابط السابق في مخابرات نظام"صدّام حسين" الغابر"حجي بكر" والذي تفيد وثائق مثيرة عثر عليها الكاتب بأنه مؤسس المنظومة الأمنية لتنظيم داعش في العراق وسوريا أنّه استخذم نفس الأفكار والمخططات الواردة في رواية أورويل" 1984 "باعتماده في سيطرته على قرى كـ "تل رفعت" وغيرها من البلدات في العراق وسوريا بتجنيد شباب لاتتجاوز أعمارهم الـ 16، و17 سنة للقيام من خلال ابتزازهم وتهديدهم لمخاتير هذه القرى والبلدات على تجميع معلومات تختص بالمسائل المالية والرعاية والمدارس ووسائل النقل والإعلام، لكن الوظائف الرئيسية، وفق الخطة التي وصفت بالأورويلية، تشمل أعمال المراقبة والتجسس والخطف والقتل!

الكاتبان الأكثر شهرة في العالم في الكتابة عن"التوتاليتارية ": التشيكي"ميلان كونديرا" والبلغاري" تزيفيتان تودوروف"، اللذان عاشا ردحا من عمريهما تحت وطأة نظامين شموليين، تناولا موضوعة "أورويلية عالمنا" بالنقد والكتابة في الثنائية المتعلّقة بالحرية والالتزام أوالديمقراطية والشمولية المعروضة في رواية"1984". فـ"كونديرا" يصف الرواية في"الوصايا المغدورة"بالرديئة، وتأثير فكرتها بالمشئوم ويحمّلها المسؤولية عن الاختصار الكبير للواقع إلى مظهره السياسي المحض، واختصار هذا المظهر السياسي في ماهوسلبي فيه على نحو نموذجي، وهو يرفض الصفح عن هذا الاختصار بحجة فائدته كدعاية في النضال ضدّ الشرّ التوليتاري، بل يدينه باعتباره اختصارا للحياة في السياسة ومن ثم في الدعاية أي اختصار حياة المجتمع إلى تعداد بسيط لجرائمه..، بينما يصف"تودوروف" هذا الاختصار في كتابه"نقد النقد"بأنه خلط بين الواقعة والقيمة، بما لايتيح أخذ الخصائص الإنسانية الصرفة لعالمنا بعين الاعتبار، فنوضع في موقف الاختيار الصعب بين عالم بدون حرّية وهو الذي رسمه أورويل في"1984"، وعالم آخر ينتفي فيه الالتزام مثّله"الدوس هاكسلي" في"عالم جديد شجاع". تودورف يشخّص إشكالية الكتابين فيما يمكن تسميته بمنطق"القضية المحرجة" في صيغته التي تقول أن الحرية بدون التزام توّلد اللامبالاة والالتزام بدون حرية ينحّل إلى قلق.

التفكير مجّددا في اللامبالاة التي تتجسّد في سلبية الضمير وموته وقلق الرعب الذي تؤسس عليه عملية تسييس المجتمع بانقسامه، بل تفتيته، في"أوقيانيا* الليبية" التي تستبيح اليوم فوضاها الأمنية تنظيمات إسلاموية متطرّفة وغامضة هو مادعاني أن أطلب من خدمة توفير الكتب"amazon " روايتي هاكسلي وأورويل الذي تربطني بعوالم كتاباته علاقة يمكن وصفها بالتاريخية. ففي 1978 العام الذي نشر فيه الكاتب صادق النيهوم قصته السياسية الرمزية "الحيوانات" مسلسلة في صحيفة"الأسبوع الثقافي" الليبية ولرصد مايمكن تسميّته"بالتناصات النيهومية" قرأت رواية أورويل الشهيرة"مزرعة الحيوانات" بينما ظلت روايته" 1984"في ترجمتها العربية المجهولة المترجم و تاريخ ودار النشر منسية بين كتبي حتى 1يناير 1984 اليوم الذي تصدرت فيه رواية أورويل أخبار نشرات أذاعة الـ"B.B.C" في لندن ولتكون الكتاب الأوّل في برنامج قراءتي في ذلك العام الكئيب من السنواث المعتمة المعروفة بالثمانينية في ليبيا التي جعلتها سياسات القمع والكبت والتجويع القذافية وقت ذاك ربما البلد الذي لاتقارن فظاعة عتمته وبؤسه حتى بــ ـ"أوقيانيا "التوتاليتارية "الأسم الذي رمز به أورويل عام1948لبريطانيا متنبئا بمصيرها في عام 1984عندما يحكمها"الأخ الأكبر" المستبد الذي كان الدكتاتور القذافي تلك السنوات صورة شرقية مطابقة لبشاعته في الجماهيرية الليبية البائسة.

* Oceania عادة يُعَرَّبُ: أوقيانوسيا.(المحرر).