Atwasat

المشيُ برجلٍ واحدة

نجوى وهيبه السبت 02 مايو 2015, 10:47 صباحا
نجوى وهيبه

فتّش في طرابلس بعينيك عن أي صورة أو لافتةٍ عليها وجهُ امرأة دون أن يتعرض وجهها للتمزيق أو الإزالة أو الإخفاء بالألوان! فتش عن ملصقٍ أو لافتة لإعلان إرشادي أو تجاري، لمرشحة انتخابية، لحملة تطوعيّة، لا يكون فيها وجهُ المرأة مخفياً. هناك من هذه المدينة من يسعى جاهداً لإنكار وجود الأنثى، رغم أن المدن إناث, والدول إناث أيضاً وليبيا خصوصاً لا تذكر إلا بصفةِ الأنثى.

في طرابلس كل صباح يخرجُ الجميعُ نساءً ورجالاً، يتجهون للجامعات والمعاهد والمدارس.. يتجهون لأعمالهم أياً كانت، فيدرسون معاً ويركبون المواصلات معاً، ويعملون في التدريس والهندسة والطب والصحافة والجمعيات التطوعيّة معاً.

الشباب والبنات، كل منهُم متواجد في الشوارع.. يتجاورون في زحام السير وفي زحام الأسواق الشعبية أو الفخمة, وفي المخابز ومحطات البنزين وداخل المقاهي. تغيب المرأة عن بعض المهن، ويفعلُ الرجل كذلك، نظراً لطبيعة المجتمع.. لكنّهما في ما عدا ذلك، يتقاسمان كل شيء، سواء كان التقاسمُ بمفهوم المشاركة وتبادل المنفعة أو التقاسم بمعنى أنه قاسم مشترك بينهما فحسب..

لكنّ هذا المشهد المتنوّع قد لا يكُون بهذه المثالية إذا ما تحدثنا عن المعاكسات المتفشية في الشوارع, وانعدام الأمن، وشكوى بعض النساء خصوصا من تعرضهن لمضايقات وتحرشات وعدم احترام لهنّ، فقط لكونهن سيدات. هذه الظرُوف وغيرها هي التي روجت حديثاً لفكرة"الفصل بين الجنسين" وتجنب" الاختلاط" في أماكن عامّة، لعلها تكون الحل.
قد تكُون القطرةُ بداية السيل..

في العام2013 افتُتح أول مقهى مخصص فقط للنساء في طرابلس، لا تدخلًه سوى السيدات، وقد أعجبت الفكرةُ الكثيرين والكثيرات بسبب الخصوصية التي توفرها لزبوناتها. فتحت الفكرةُ أعين الكثيرين عن فكرة مستحدثة؛ تتمثل في حاجة المرأة للخصوصية بعيداً عن الرجل، حتى في أماكن عامة كالمقاهي والمطاعم لا نجلسُ فيها إلا لتمضية بعض الوقت وأكل شيء ما.

بعد أشهر، افتتح مصرف الأمان في طرابلس- وهو من أكبر المصارف في البلاد من حيث عدد العملاء- فرعاً جديداً له يقدم خدمات نسائية فقط ولا يدخله الرجال، مع الإبقاء على طبيعة عمل بقية الفروع في التعامل مع العملاء ذكورا وإناثاً معاً.

في 2014اختفتْ"حورية طرابلس وغزالتها"، تمثال المرأة والغزالة الذي كان يعد من أيقونات طرابلس.. اختفى فجأة واتجهت أصابع الاتهام لجماعات إسلامية متشددةٍ كانت تهدد بإزالته من قبلُ باعتباره تمثالاً"لامرأة عارية". أخذوا الغزالة وحلّت محلها كومة من الحجارة الرمادية.

في مطلع هذا العام، أصدرت وزارة التربية والتعليم قراراً بفصل تلاميذ المرحلة الإعدادية إلى فصول للبنات وأخرى للأولاد.

في مطلع هذا العام، أصدرت وزارة التربية والتعليم قراراً بفصل تلاميذ المرحلة الإعدادية إلى فصول للبنات وأخرى للأولاد. وفُصل الرجال عن النساء في نادي أبوستة للفروسية في طرابلس، وهو مكان عام مجاني للتنزه والفسحة للعائلات، حيثُ أصبح الرجال والنساء مفصولين بأيام مخصصة لكل جنس على حدة.. وكل هذا الإبعاد والفصل المقصدُ منه- كما يقول مؤيدوه - توفيرُ خصوصية للجنسين وللمرأة خصوصاً، وتقليل فرص انتشار المعاكسات ومنحُ مساحة راحة وحريّة للطرفين، كما أنها تطبيق لرأي شرعي يعتبرونه الأصح، وهو عدم جواز"الاختلاط" بين الرجال و النساء.

باستثناء ما ذُكر أعلاه ما تزال الأمور كما هي في كل مكان، يعمل الرجل والمرأة كنصفين مكمّلين لبعضهما بشكل عادي، تكسُوه الخلافات الروتينية التي تحدث بين أي رجُلين أو امرأتين.
في ليبيا لم يكن المجتمع فيما سبق يُبالغ في دمج الجنسين معاً، تعارف َالناس هنا على الفصل ومنح الخصوصية بينهم منذ زمن، فمنذ بداية ازدهار التعليم في ليبيا والمدراس الثانوية غالبيتها مقسّمَة لمدراس للأولاد وأخرى للبنات والقليل منها مختلط، ولكل أسرة حق الاختيار أينما تريد تدريس أبنائها.

والمقاهي في طرابلس التي لا يجلسُ فيها سوى الرجال معرُوفة وواضحة لا تدخُلها النساء دُون حاجةٍ لتعليمات أو تنويه أو جدول زمني. وأماكنُ العائلات التي لا يُسمح فيها بدخول الشباب معروفة للجميع، وحتى المناسبات الاجتماعية الليبية مفصولة للرجال والنساء كلا على حدة. إنها أمور متعارف عليها ضمن أعراف المجتمع ومنذُ زمن، دون الحاجة لهذه التعليمات الجديدة التي تدخلت في خصوصياتنا أكثر من كونها منحتها لنا.

هل هوَ الحل لوقف المعاكسات والتحرش؟

المخاوف من تعرض النساء للمُعاكَسات والتحرش- والتي لم توثقها أي جهة رسمية بشكل واضح حتى الان- هي الدافع الأول للاتجاه نحو إبعاد البنات عن الشباب في أماكن عامة.
النساء هنّ الضحية الأولى للتحرش، إلا أن ارتفاع نسبة مرضٍ اجتماعي كهذا في مجتمع ما يُحسَب وصمةً عارِ على المجتمع ككل رجالا ونساءً، وليس على جزء منهُ فقط.
أمّا اللجوء إلى إبعاد الشباب عن البنات كحل للقضاء على كل ظاهرة أخلاقية سيئة فهوَ اعتراف بأحد شيئين؛ إما أنه اعتراف بأن الرجل هو المسؤول عن هذه المعاكسات لكونه كائناُ تقوده رغباته دون التحكم بها وبالتالي يجب إبعاده عن المرأة، أو أنه اعتراف بأن المرأة هي السبب في حدوث التحرش بوجودها وخروجها و"مزاحمتها للرجُل" ويجب إبعادها عنه! وفي كليهما إهانة لنا جميعاً ولمجتمعنا.

كيف ستنشأ علاقة احترام وود بيننا إذا ما فُصلنا في المدارس أو أماكن العمل، حواء هي نصف المجتمع وآدم نصفه الآخر, هل يمكن لأحدنا أن يمشي بساق واحدة؟! أو أن يصفق بكف واحد؟

لو اعتادَت المرأةُ على فكرة بنك للنساء فقط ومقهى وجامعة لهن فقط، ستستهجنُ فكرة رؤية رجل ووجوده في طابور المخبز أو في السوق أو أي مكان آخر، وكذلك الأمر لو قلبنْا الفرضية على الرجل.

ستُصبح نظرتنا لبعضنا ساذجة وفاقدة للثقة، ستزداد حدّتنا في التعامل مع بعضنا ونزدادُ غربةً عن بعضنا، ونحن المجتمع المتفتتُ على أساس القبلية والأيدولوجيات والحسابات السياسية، هل نحتاج مزيدا من التصنيف والانقسام الجندري؟

يرفض الكثيرُ منّا الاعتراف َبأنّ سببَ الكثير من الآفات الاجتماعية يكمُن في أمرٍ أكبر مما ترتديه المرأة ُ أو يُشد نظرَ الرجُل، ولا نفكر في غياب القانون وأوقات الفراغ التي يعيشهُا شبابُنا- والتي لم تقُدهُ للمعاكسة فقط بل قادتْه لحمل السلاح والضياع في متاهات أخرى- لا نفكر في إيجاد حلولٍ للبطالة المقنّعة وتدني مستوى المعيشة والأمراض الاجتماعيّة والثغرات في تربيتنا.. بل نُتجهُ مباشرةً للحل الأقرب، والذي قد يريحُنا من ظواهر بشعة كنا نراها علنا ً ليخلقَ لنا مشاكل أخرى تحت السطح، ونظرةً ساذجة بين الرجل والمرأة تنحصرُ فقط في الخوف من الجنس الآخر والفرار منه.

" الاختلاط" مصطلح مستحدث..

إنّ مصطلح"الاختلاط " أو"الفصل بين الجنسين" يعدّ مصطلحاً مستحدثاً لم يكُن متداوَلا فيما سبق، كما أنّ علماء الدين والفقهاء لم يتبنوا موقفاً مُوحدا وحاسِماً تجاه هذه المسألة، وحديثاً بسبب الصراعات الآيديولوجية التي تفشّت في دُول المنطقة، تدخلتِ الحساباتُ السياسية والآيديولوجية في آراء فقهاء الدين وسيّستْ بعضَها, تماماً كما سيّست أموراً أخرى، ما يُؤثر على مكانة بعض الفتاوى الدينيّة التي تصدُر في هذا التوقيت.

إن طبيعة الحياة في مجتمعنا الليبي تمنح خصوصية للرجل والمرأة دون كل هذه التعميمات الجديدة ودون توجيهات.. ولكن ماذا لو سلّمنا جدلاً بتطبيق فكرة الإبعاد والفصل بيننا كحلٍ متاح ٍ ولو مؤقتاً ؟ فكرواْ معي كيف سيُصبحُ شكلُ حياتنا وماذا سنخسرُ وماذا سنكسب؟

ستتغير أمور كثيرة ربما لا يكفينا مقال واحد لحصرها، أولها أننا سنحتَاجُ مئاتِ الملايين من الدنانير لبناءِ زوجٍ من كل شيء، ليكُون لكل شيء مكانٌ للرجال وآخر للنساء، أزواج من أماكن الدراسة والترفيه والأسواق.. وربما الطرق, ما رأيكم لو فصلنا أيضاً المطارات ومراكز الشرطة والبرلمانات والحكومة؟

ومدينةُ "النساء" هل يحكمها رجل أم امرأة؟ أتحكُمها امرأةٌ وتلتقي مع حكام المدن الأخرى من الرجال؟

خلق الله آدم في الجنة وخلق له حواء من ضلعه لتؤنسه وتشاركه حياته، فدعونا نؤنس بعضنا في هذا العالم الذي أصبح موحشاً يوما بعد آخر، وكفانا نزاعاً وفُرقة.