Atwasat

تصريحات الثني وموقف الإسلاميين منها(للمعرفة والعبرة)

أحمد مصطفى الرحال الثلاثاء 14 أبريل 2015, 10:48 صباحا
أحمد مصطفى الرحال

الاتهامات التي وجهها عبدالله الثني إلى قيادات في تحالف القوى الوطنية وعلى رأسها عبدالمجيد امليقطة، وإلى قيادات في التيار الإسلامي، وعلى رأسها علي الصلابي وعبدالحكيم بالحاج، كانت اتهامات مثيرة إلى حد ما، لكن ما حدث بعد ذلك هو الأكثر إثارة، وهو الذي يحتاج إلى وقفة وتفكير.

بعد تصريحات الثني بساعات جاء رد امليقطة، وهو الرد الذي فتح أبوابا لمعرفة بعض ما يدور من صراع داخل أروقة رفاق الصف الواحد الذي بدا في أول الأمر صفا متماسكا، والمقصود هنا هو التيار الذي اصطلح على تسميته بالتيار المدني، أو هكذا سمى هو نفسه، وذلك لكي يجعل نفسه مختلفا عن التيار الإسلامي، الذي يرونه تيارا آيديولوجيا إسلامويا ليس مدنيا لأنه يعمل من أجل إقامة الدولة الدينية.

المثير أكثر هو أن امليقطة رد مباشرة، بغض النظر عما جاء في الرد من تفاصيل، بينما لم يرد الطرف الآخر، وذلك، كما يبدو، مقصود. فالصلابي وبالحاج وغيرهما اكتفوا بالمراقبة؛ والسؤال المهم هنا هو: لماذا لم يرد هؤلاء؟ ما السر وراء ذلك؟

هناك من يرى أن عدم رد هؤلاء هو أنهم اكتفوا بمشاهدة تداعيات التصريحات وما قد تحمله من انقسامات في صف خصمهم أو ربما عدوهم، وهو حسب أصحاب هذا الرأي، أن هؤلاء يهمهم أن ينفضح الخصم أمام الشعب فيخسر بذلك أنصارا، ثم يتشرذم الجمع وتكون هناك فرصة لكي يكسب الإسلاميون أنصارا.

التيار المدني مصطلح فضفاض واسع، ولم يستطع حتى الآن أن يتشكل في تنظيمات عملية قادرة على التجانس والتعامل بناء على منظومة فكرية واضحة

هذا الرأي قد تكون له وجاهة، وقد يكون مقبولا، لكن هل انتهت القصة هنا؟ وهل المسألة هي فقط أن الفرصة واتت الإسلاميين كي يتغلبوا بكسب أصوات وكفى؟

من يعرف تاريخ التنظيمات الإسلامية الليبية عن قرب، وعلى رأسها الإخوان المسلمون والجماعة المقاتلة، ربما يرى رؤية أخرى أكثر عمقا.

قصة تصريحات الثني وما جاء بعدها كانت فقط مدخلا لهذه المقالة، لأن هذه التصريحات ربما تحتاج وحدها إلى فهم أبعادها وأسبابها من خلال اتصالات هادئة وعميقة وقوية بطرفي المعادلة، إن صح التعبير.

الأهم هنا، وهو موضوع المقالة، هو محاولة الحديث بصراحة وبصوت مسموع عن قدرة الإسلاميين على التنظيم والتخطيط والمناورة، على الأقل على المستوى الليبي، وهذا ربما يدفعنا إلى المقارنة بين التكتيك لدى الإسلاميين وبين الفوضى لدى من اصطلح على تسميتهم بالتيار المدني.

الإخوان المسلمون تحديدا لديهم خبرة طويلة في التخطيط الإستراتيجي على الرغم من إمكانية الاتفاق على أن تخطيطهم قد لا يتجاوز التخطيط لصالح أنفسهم من أجل الحصول على مكاسب، بل ربما هم أيضا فشلوا إلى حد كبير في الانتقال من التخطيط لأنفسهم، وهو ما كان قبل عام 2011، إلى التخطيط على مستوى دولة بعد 2011. لذلك نحن هنا نقارن لكي نصل إلى نتائج تحتاج إلى نظر من المراقبين والمهتمين والناصحين لدى التيار المدني.

من أهم صفات الإخوان المسلمين القدرة على إدارة الأزمات، سواء حين يكونون خارج دائرة الضغط أو حين يكونون داخلها كما هو حاصل الآن، فهم في العموم لديهم تكتيك يسمونه رفع الواقع قبل الخوض في المقترحات ودراستها واتخاذ قرارات.

رفع الواقع يكون من خلال دوائر للتفكير تعتمد على المراقبة والنظر والتواصل، وهو تماما ما حدث أثناء وبعد تصريحات الثني، أي بمعنى أن عدم ردهم على الثني لم يكن فقط من باب انتظار انقسامات تقع في صف خصمهم أو خصومهم، وإن كان هذا ربما يكون جزءا مهما منها.

إن ما يقوم به الإسلاميون الآن هو إمعان النظر لإدراك أسباب تصريحات الثني، ولديهم القدرة الفائقة على الوقوف على أي نقد يوجه إليهم؛ وهذا لم يأت من فراغ أو بمجرد تجارب في العمل السياسي والاجتماعي، بل جاء من خلال قيم لديهم وهم يرون أنهم الأولى بالالتزام بها، فهم يختتمون جلساتهم ولقاءاتهم، حتى الاجتماعية منها، بقراءة سورة العصر، التي فيها توجيه من الله تعالى للمؤمنين بالتواصي بالحق وبالصبر. وبالتالي فإنهم يتواصون بالصبر والحكمة وعدم التسرع في ردود الأفعال، ونتيجة ذلك أنهم سيكسبون زمام المبادرة بدلا من التورط في ردود الأفعال التي ستجرهم إلى معارك جانبية تغرقهم في مشاكل أخرى.

ما يقوم به الإسلاميون الآن هو إمعان النظر لإدراك أسباب تصريحات الثني، ولديهم القدرة الفائقة على الوقوف على أي نقد يوجه إليهم

من القيم التي تعلموها وأخذت منهم سنين طويلة، قيمة الصبر على البلاء، ومن خلال هذه القيمة هم يراجعون أنفسهم ويعيدون حساباتهم وينظرون بعمق في مآلات الأمور التي شاركوا فيها والتي حولت البلاد إلى صراع آيديولوجي يبحثون من خلاله عن الفوز لكي يكونوا مسيطرين.

هذه الحرب الآيديولوجية بدأت مبكرا لديهم، قبل حتى إعلان التحرير في البلاد عام 2011، وذلك عندما أعلن الصلابي أن محمود جبريل رجل علماني ليبرالي سيجلب فكرا يحارب الإسلام في ليبيا.

إذن تصريحات الثني لم تكن بالنسبة إليهم حدثا مفردا يجعلهم يفكرون، بل إنها بالنسبة لهم حلقة في سلسلة طويلة من الحرب، وهم في جلساتهم الخاصة يقولون إن التيار المدني منقسم على نفسه أصلا، وبالتالي فهم كانوا يتوقعون ما يشبه تصريحات الثني أو ربما ما هو أشد منها.

كذلك عندما جاءت هذه التصريحات لم ينفعلوا كما فعل خصمهم، لأنهم أصلا منسجمون في مراجعاتهم الخاصة، فجعلوا هذه التصريحات إشارة تؤكد صدقهم ورأيهم وتقوي موقفهم.

في عام 1998 عندما ضربت جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا وانتقلت قيادة الجماعة إلى الخارج، بدأت في التدرُّب على ممارسة شيء من الديمقراطية داخلها، على الأقل بشكل ظاهري؛ فلقد صار مجلس الشورى بأكمله يُنتخَبُ انتخابا، وأضافوا إلى ذلك انتخابَ المراقب العام انتخابا مباشرا داخل الجمعية العمومية.

كان ذلك في وقت لم تكن لديهم الطموحات المباشرة للحكم وممارسة السياسة على مستوى دولة، كيف وقد تغير الحال وفتحت لهم أبواب العمل السياسي داخل البلاد.

من صفات الإخوان المسلمين أنهم يؤمنون بالتجربة العملية بعد الدراسة، لأن التجربة ينتج عنها خبرة وقدرة على التعديل أو التطوير أو ربما الإلغاء ووضع خطط بديلة.

هذه القدرات جاءت بعد عمل سنين طويلة درسوا خلالها تجارب عملية في الواقع، فقد درسوا عن قرب التجربة السودانية والتجارب المصرية وتجربة تركيا الأربكانية وتجربة تركيا الأردوغانية وكذلك التجربة الأردنية والتجربة الكويتية والتجربة الإماراتية والتجربة السعودية والتجربة العراقية والتجارب الأفغانية، ومازالت لهم اتصالات بمعظم هذه الساحات، أضف إلى ذلك تجربة الإخوان الجزائريين أيام محفوظ نحناح، وكذلك التجربة التونسية التي يعتبرونها الآن امتدادا استراتيجيا مهما بالنسبة لهم، بالإضافة إلى التجربة المغربية.

هذا الامتداد الكبير والواسع مازالوا يتواصلون من خلاله بكل هذه التجارب، وبالتالي فإن الموضوع الليبي موجود من ضمن أهم الملفات على طاولة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وحلفاء التنظيم الدولي من دول ومنظمات، ولهم رأي فيها وستكون لهم آراء أخرى بحسب المجريات.

وفوق هذا هم لديهم خبرة طويلة في جميع التجارب الإسلاموية الليبية، بما فيها تجربة الجماعة المقاتلة، التي يختلفون معها وتختلف معهم، ولكنهم كانوا على تواصل ومعرفة عميقة بما كانوا يقومون به من حركات ومعارك.

هذا كله لم يأت فقط عن طريق ارتباطات بالتجارب السياسية والاجتماعية، بل جاء من خلال قيمة مهمة تركها لهم مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا، الذي قال: نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.

في مقابل ذلك فإن ما يظهر للمتابع عن بعد هو أن الإسلاميين لا يحملون إلا شعار طلب الحكم والسيطرة فقط، وهذا غير صحيح؛ فهم تعلموا لسنين طويلة أيضا وضع الخطط والخطط البديلة، ولديهم الطموح العملي ليحكموا ولكنهم أيضا في ظروف معينة لا يمانعون في أن يكونوا شركاء حتى لمن يرفضونه فكريا وعقائديا، بل لديهم الاستعداد ليكونوا مساعدين وداعمين للقادر على الاستيلاء على الحكم.

من الناحية المقابلة، فإن التيار المدني الذي تمثل سياسيا في تحالف القوى الوطنية، تأسس على أساس الانتصار لقيادته المؤسِّسة، وهي شخصية محمود جبريل، وكان التجميع شبه عشوائي إن لم يكن عشوائيا مطلقا، وهو ما جعل هذا التنظيم يدرس ويقرر من خلال فئة محددة هي القيادة فقط.

من صفات الإخوان المسلمين أنهم يؤمنون بالتجربة العملية بعد الدراسة، لأن التجربة ينتج عنها خبرة وقدرة على التعديل أو التطوير 

 

 

ربما يحتاج منا تحالف القوى الوطنية إلى دراسة عميقة لمعرفة إمكاناته وقدراته، لكن من خلال الممارسات العامة هم فشلوا في التعامل مع هجمة الإسلاميين الفكرية التي كانت مدروسة.

فالتيار المدني مصطلح فضفاض واسع، ولم يستطع حتى الآن أن يتشكل في تنظيمات عملية قادرة على التجانس والتعامل بناء على منظومة فكرية واضحة، بدليل أن تحالف القوى الوطنية حارب علي زيدان الذي كان من المفروض أنه يقف في صفهم ضد الإسلاميين، ومن ناحية إعلامية لم يتعاون مع محمود شمام إعلاميا، وهو من يعتبر أقرب إليهم فكريا على الأقل كتيار مدني، وها هي الحرب تشتعل مع الثني أيضا.

التيار المدني عجز تقريبا أمام الهجمات الآيديولوجية التي شنها عليه التيار الإسلامي، الذي سمى نفسه في مقابل ذلك بالتيار الوطني. ونلحظ هذا من المظاهر العملية التالية:
أولا: لم يستطع ممثلوا التيار المدني أن يكونوا صرحاء فكريا وآيديولوجيا، فلم يستطيعوا أن يقولوا صراحة هل هم يسار أم يمين أم وسط أم مزيج. الحقيقة أنهم قالوا كلاما يجامل الإسلاميين فوقعوا في شباك الهجمات الموجهة بقوة واتُّهِمُوا بالتدليس والكذب.

ثانيا: حين عجزوا عن المواجهة الفكرية لجأوا إلى تبني القبيلة والقبلية والجهوية في مقابل الآيديولوجية الإسلاموية، وبالتالي وصفوا التيار الإسلاموي بأنه يحمل أفكارا ومشاريع غريبة عن المجتمع الليبي الوسطى المالكي التقليدي، وقالوا إن هذا لا يمكن أن يكون في صالح الدولة المدنية، لكن ما فعلوه هم هو أيضا أبعد ما يكون عن المدنية، وذلك بلجوئهم إلى القبلية والجهوية. هذا الأمر لم يفاجئ الإسلاميين الذين فهموا هذه اللعبة لأنهم قاموا مسبقا بعقد تحالفات جهوية وقبلية أيضا.

ثالثا: لجأ بعضٌ من قيادات التيار المدني إلى الإدعاء بأنهم راجعوا مواقفهم من ثورة فبراير، ومنهم من صرح بالندم على مشاركته في الثورة، وهو ما خلق المبررات لطرف الإسلاميين ومن حالفهم جهويا وقبليا، فقد سمى الإسلاميون أنفسهم بالتيار الوطني في مقابل مصطلح التيار المدني من باب الإعلان عن فتح الباب أمام كل من يريد التحالف معهم حتى من غير الإسلاميين.

ما سبق يحتاج إلى دراسات فعلية لمرحلتي المجلس الانتقالي الوطني والمؤتمر الوطني، فقد استمر التواصل بين الإسلاميين ومن حالفهم داخل أروقة المؤتمر الوطني حتى استطاعوا سحب التأثير من تحالف القوى الوطنية ومن حالفهم، إن دراسات كهذه مهمة لمعرفة أسرار القدرة على التغلغل الإسلاموي في السلطة التشريعية السابقة والتي قبلها حتى وصل الحال إلى ما يشبه الانقسام داخل البلد الواحد وهو ما قد يؤدي فعلا إلى خطر الانفصال الكلي.

من المهم والخطير جدا أن يفهم السياسيون والحزبيون والناشطون في ليبيا ما يحدث، وأن يتعاملوا بواقعية مع الواقع الموجود، وبعقلانية، فالإسلام السياسي لديه من الإمكانات ما يجعله قادرا على تجاوز هذه المرحلة والاستعداد للمرحلة التي تليها.

الفرق بين التيار المدني والتيار الإسلاموي هو أن التيار المدني لا يريد أن يفهم بعمق أبعاد الأزمة ولا يريد أن يفهم طريقة التخطيط والتنظيم لدى الإسلاميين، لذلك فهو يلقي التهم جزافا بلا دراسة ولا تمعن، بينما يقوم الإسلاميون بعكس ذلك، فهم لا يستعجلون في إلقاء التهم، أو على الأقل لم يعودوا يستعجلون، بل يصبرون ويخططون بهدوء على الرغم من الفوضى العارمة التي شاركوا في إيقاع البلاد فيها.

الإسلاميون يوزعون المهام بحسب قدرات الأفراد والفِرَقِ داخل كياناتهم، فلديهم من يجاهرون بالعداء، وهؤلاء في الغالب يظهرون بمظهر من يتصرفون تصرفات فردية غير مدروسة، ولديهم آخرون قادرون على التعامل مع الطرف الآخر ويتعاطفون معه أيضا، حتى وهو خصمهم أو عدوهم، وهناك آخرون لديهم القدرة على تجاهل الانتقادات والهجمات وذلك لإنهاك الخصم؛ وهؤلاء جميعا يلتقون في خطط موحدة تعالج جميع هذه الاختلافات الظاهرية التي هي في حقيقتها صناعة محبوكة باقتدار.

هذه المقالة هي محاولة لرفع واقع موجود، ولا يمكن تصنيفها بأنها انتصار لتيار ضد آخر، كما أنها بالدرجة الأولى ليست في صالح الإسلاميين الذين أختلف معهم بعمق ولا أراهم صالحين للحكم. هي مجرد محاولة للفت الانتباه حتى يطور السياسيون والناشطون والمثقفون من أدائهم السياسي لخلق نوع من التكافؤ الواقعي، فالمعركة ليست معركة عسكرية تنتهي بانتصار طرف ما واندحار الآخر، القصة أعمق بكثير.