Atwasat

دفاعا عن حرية الفن والتعبير:مجلس الدولة الفرنسي ينتصر لـ"الوحش النجس"

بوابة الوسط - القاهرة الثلاثاء 24 فبراير 2015, 10:28 صباحا

لا شك أن يومي 5 و6 فبراير الجاري سيظلان يومين عالقين بذاكرة وسجل القضاء الفرنسي وذلك في صلة بحرية الفن والتعبير. فقد استطاع الفنان الفرنسي الساخر ديودوني وهو مسلم من أصول أفريقية أن يقدم في آخر الأمر عرضه بعنوان"الوحش النجس "(في إشارة بلا شك إلى نفسه) يوم 6 فبرايربعد أن عرف اليومان السابقان ماراتونا قضائيا قل حدوثه في تاريخ القضاء. فقد أصدر رئيس بلدية كورنون دورنيو. Cournon d’Auvergne.. قرارا يوم 5 فبراير يقضي بمنع العرض المبرمج لليوم الموالي وهو القرار الذي طعنت فيه الشركة المنتجة للعرض أمام القاضي الاستعجالي بالمحكمة الإدارية بجهة كلارمون فيرون Clermont-Ferrand الذي أوقف بعد أربع ساعات تنفيذ المقرر البلدي، غير أن رئيس البلدية استأنف قرار المحكمة أمام مجلس الدولة الفرنسي الذي أقر على الساعة السابعة مساء من يوم 6 فبراير الحكم القضائي الإداري مما سمح لديودوني بإقامة عرضه على الساعة الثامنة من نفس اليوم أمام قاعة تغص بالمتفرجين، رغم أنه لا أحد كان قادرا على التنبؤ بمآل القضية. .

أطوار القضية وحيثياتها
عمد رئيس بلدية.. كورنون ديمفرنوي. إلى منع عرض حفل ديودوني وعنوانه "الوحش النجس" والذي كان مبرمجا منذ يونيو الماضي وعلل قراره الإداري بأن العرض يتضمن كثيرا من العبارات المعادية للسامية وهي شبيهة بالعبارات التي كانت موضوع أحكام جزائية ضد الممثل( 27 حكما) كما استند رئيس البلدية إلى أن كثيرا من الأقوال والحركات غير مقبولة وأنها تأتي في سياق وطني يتسم بالتوتر عقب الأحداث الأليمة التي شهدتها فرنسا أيام 6 و7 و8 يناير 2015. كما علل قراره بأن تصرفات وأقوال الممثل دعت سابقا إلى فتح تحقيق في شأنه بسبب" تمجيد الإرهاب " وأن العرض قد يؤدي إلى المساس باللحمة الوطنية وينال من قيم ومبادئ الجمهورية، كما لاحظ أن العرض يأتي في سياق التأثر العام التانج عن أن بعض الضحايا هم من أصيلي الجهة وفي خضم عمليات اعتداء ضد الجاليتين اليهودية والإسلامية ليلتي 12 و22 يناير 2015 بالمنطقة التي تقع تحت أنظاره وفي ظل وجود رسائل تنذر بإمكانية اندلاع حوادث خطيرة بمناسبة العرض. وبالنظر إلى كل هذه الظروف والملابسات فقد اعتبر رئيس البلدية أن منع العرض هو الإجراء الوحيد الكفيل بضمان النظام العام.

غير أنه وبخلاف المسؤول الإداري فإن القاضي الاستعجالي بالمحكمة الإدارية بكلارمون فيرون لم يستنتج من أوراق القضية ولا من المؤيدات والمرافعات أثناء الجلسة العلنية أن العرض المبرمج منذ شهر يونيو الماضي في قاعة زنيت في مدينة كورنون ديمفرنوي(وقع عرضه بعد في كثير من المدن الفرنسية دون أحداث تذكر) وبالنظر إلى محتواه يتضمن أي مساس بالأمن العام كما أنه لم يكن موضوع شكاوى أو أحكام جزائية وأنه استنتج من التحقيقات أن السياق الوطني أو السياق الجهوي اللذين أثارهما رئيس البلدية لا يتضمنان غير إشارة إلى إمكانية تنظيم مظاهرة وأن الأحكام الصادرة في حق الممثل في قضايا أخرى حتى وإن كانت مشابهة لا تبرر المنع. وأنه إذا كان تنظيم العرض يحتاج إلى إجراءات أمنية خاصة فإن ذلك يقع على عاتق الشرطة وأن التعلل بعدم إمكانيات توفير الظروف الأمنية لوجود حالة الإنذار القصوى التي أُعلنت في فرنسا عقب عمليات" شارلي ابدو" لا تبرر عملية الحظر أيضا.

وبناء على رأي القاضي الإداري فقد اعتبر مجلس الدولة الفرنسي أن المحكمة الإدارية بقرارها المطعون فيه لم تخالف أي نص قانوني بحيث أن الخطر على الأمن العام لا يشكل أي مسوغ شرعي لإبطال العرض وأن الحجج المدلى بها والمتعلقة بمعاداة السامية تكون في غير محلها وأن عنصر العجلة في إبطال العرض غير متوفر في قضية الحال.. كما اعتبر مجلس الدولة بأن المقرر البلدي يمس من حرية التعبير وهو غير مؤسس. وبناء على ذلك أيد المجلس قرار القاضي الإداري الاستعجالي في إيقاف التنفيذ فأجاز العرض اعتبارا بأن ممارسة حرية التعبير شرط أساسي للديمقراطية والضامن لاحترام بقية الحقوق والحريات وأنه يرجع بالنظر إلى الشرطة البلدية أن تتخذ الإجراءات الكافية والضرورية لممارسة حرية الاجتماع وأن كل تضييق على حرية التعبير باسم دواعي الأمن العام يجب أن يكون ضروريا وملائما ومتناسبا.

القضاء ينتصر للوحش
لا شك أن قرار مجلس الدولة الفرنسي يخفي من الناحية القانونية والسياسية والفلسفية مجموعة من الدلالات العميقة التي يجب أن نتوقف عندها طويلا لتحليل أبعادها وخلفياتها:
1- أن الفن مهما كانت قداسته لا يخرج عن أنظار القضاء وخاصة القضاء الاستعجالي الذي يلتجئ إليه الخصوم عادة في الحالات الشبيهة بحالتنا هذه. وهو الوحيد الذي يبت في مدى مساس التعبير الفني أيا كان جنسه بقواعد المجتمع المتعارف عليها أو بالأمن العام، كما أنه الوحيد الذي يتحقق من سلامة الدعوى عن طريق التدقيق بصحة الحجج المدلى بها والاستماع إلى الأطراف المتنازعة وأن ذلك يدخل حتما في صلب اختصاصه. وأنه لا إمكانية للّجوء إلى سبيل العنف والإرهاب لإسكات أفواه الفنانين بدعوى مساسهم بأية قاعدة أمنية اجتماعية أو دينية.

2- أن التعلل بالظروف الأمنية أو بالخطر الإرهابي لا يمكن أن يكون ذريعة تستعملها السلطة السياسية لمصادرة الرأي المخالف أو الاعتداء على الحقوق والحريات وأن أي تضييق على حرية التعبير يجب أن يتناسب مع الخطر الحقيقي أو المفترض.

3- أن القضاء الناجز والنزيه والعادل والمستقل هو الضامن الوحيد للحقوق والحريات و أن القضاة كمؤسسة وكأفراد من واجبهم البت، بصورة حيادية، في المسائل المعروضة عليهم، حسب تقييمهم للوقائع و فهمهم للقانون، دون أية قيود أو مؤثرات أو إغراءات أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات مباشرة أو غير مباشرة من أي جهة كانت و لأي سبب كان. إذ من المعلوم أن قضية ديودوني قد تدخلت فيها عناصر كثيرة منها ما يعود إلى السلطة التنفيذية إذ اعتبر مانويل فالس الوزير الأول الفرنسي قضية ديودوني معركته الشخصية وهو القائل"من خلال زوجتي وثاقي أبدي مع الجالية اليهودية ومع إسرائيل"(هكذا!).... ومنها ما يعود إلى تأثير الجماعات اليهودية الفاعلة في فرنسا... لقد قال القضاء الفرنسي كلمته، رغم أن هناك بعض الإشاعات تقول بأن مانويل فالس شوهد يوم 6 فبراير وهو يخرج من مقر مجلس الدولة. وسواء ذهب فالس أو لم يذهب إلى مقر المجلس وسواء حاول التأثير علي قراره أو لم يفعل، وبغض النظر عما قد ينتج عن هذا الأمر من تتبعات إذا ما ثبت، فقد أصدر المجلس حكمه وهو يعني هزيمة من يؤمنون مرة بحرية التعبيرو يقفون ضدها مرات كثيرة أخرى خدمة لمبادئ توزن بميزانين.