Atwasat

في التفاوض و التمانع

نورالدين خليفة النمر الأحد 15 فبراير 2015, 11:54 صباحا
نورالدين خليفة النمر

النزاعات والخلافات إحدى محرّكات الأزمات السياسية، تجاوزها والخروج منها في زمننا هذا يكون بإرساء دعائم الحوار بالمعنى الديمقراطي، والمؤسسي الحديث. أي الثقافة التي ترسخت اشتراطاتها في البلاد الديمقراطية بتحدّد التوجّهات الاجتماعية والطبقية فيها وتأطرها في الأحزاب والكتل السياسية، والتنظيمات المجتمعية التي تُلجئها الأزمة إلى الانخراط في عملية حوارية تحكم عملها أليات التفاوض السلمي للوصول إلى التسويات التي تنتهي بالأطراف المختلفة إلى التوافق والخروج من الأزمة.

ولكن في الوضع الاستثنائي العربي، الذي تعيش ليبيا اليوم أحدّ أشكاله اصطناعا وشذوذا فيما يمكن وصفه بالبداوة السياسية بالشكل ربما الأقرب إلى ما مرّ به لبنان الطائفي، فيما أطلق عليه(جورج قرم) اسم اللبننة أوالغتونة، أي أسلوب إفشال الدولة بتحويل البنيات الاجتماعية إلى غيتوات سياسية مغلقة توصيفا للحقبة التي يوّرخ لها بما شهده لبنان من أحداث عنف ابتدأت من النصف الثاني من السبعينيات وامتدت إلى ماعرف بأزمة معركة الرئاسة في 1988 من القرن العشرين، وهو الوضع الذي تقود الفوضى فيه نفسها إلى مجهول الحرب الأهلية، المصير الذي لوّح به العديد من المراقبين السياسيين إبّان انطلاقة ثورة التحرير الليبية في 17 فبراير 2011 والذي قوبل وقت ذاك باستهجاننا كليبيين واستنكارنا.

أطراف النزاع تُظهر بدءا الممانعة الظاهرية والمعاندة والرفض لأي موقف مبدئي للتفاوض، مستبقة سياسة فرض الأمر الواقع (بخبطة) عسكرية سريعة على الأرض

فالسلطة التي اُفتكّت من استبداد الفرد وُصيّرت استبداد مجاميع هي اليوم ليست رهينة فقط لفوّهات بنادق المتحاربين، بل ومشاع لفوضى السلاح بأنواعه وتداوله في أيدي أطراف ومجموعات عديدة خارج نطاق مايسمّى بالمؤسسات الشرعية التي لم تعد موجودة داخل ليبيا، وخارج ما كان يسمّى سابقا بحدودها، و المبدئيات الهشّة التي انبنت على الأفكار الجامحة، والتي خرجت من محبسها الطويل لمدة أربعة عقود إلى النهار حوّلتها الأطماع والأهواء والأوهام العابرة للحدود، مثلها مثل السلاح، إلى معتقدات عمياء لا تعرف إلا لغة العنف والموت، وأنظمة القيم المتوّهمة والمهترئة، التي أحكمت طبائع الاستبداد انسدادها لأربعة عقود، تتحوّل اليوم إلى غبار من الخيالات الكاذبة والمضلّلة، وأخيرا أن تقفز التوصيفة المفارقة والمشؤومة ذاتها لمجتمع الانقسام الذي نعى العلاّمة ابن خلدون، منذ قرون، دورة انسداده وعقم تاريخه في المغرب القروسطي، ومن جديد إلى مخيالنا السياسي فتصم التحوّل الثوري- التحريري الليبي في 17 فبراير الذي رغبناه- قطيعة مع نظام الاستبداد بنفس الصورة الانقسامية المشوّهة التي اصطنعها ولوّح بها رأس النظام المنهار خدمة لأغراضه في الاستحواذ على السلطة لأربعة عقود مظلمة فتحرفه عن مساره وتصيّره نسخة محدّثة أكثر كارثية عن الأصل الذي وصّفه ابن خلدون بتشاؤمية حجبت واقعيته الفذة التي تجلّت في مسائل أخرى عالجها في كتاباته في المعرفة والتاريخ وهي الآراء التي أسست بنفاذ وألمعية لما عرف لاحقا بالسوسيولوجيا أو علم الاجتماع.

لقد عيب على التحليلات الخلدونية ليس فقط تجاهلها للاعتبارات السوسيولوجية لتشكّل القوى الاجتماعية أو الطبقات بالمعنى الذي نرمي اليه اليوم والتي لم تكن موجودة آنذاك، بل اندراجها في واقعية حسيّة شائعة يمكننا تسميتها بالوقائعية التي ترفع حقائق عينية ملموسة، بل عاميّة وشائعة كالبداوة ،والقبيلة،والعشيرة والعصبية التي تنجب الدولة وتقتلها، إلى مرتبة المفاهيم. فالوقائعية التشاؤميةاالتي اجترحها ابن خلدون، والتي اعتمدتها الإثنوغرافيا الاستعمارية فيما عرف بنظرية (المجتمع الانقسامي fragmented society) ووظّفتها كأداة تحليل معتمدة في سياسات الاستعمار للمغرب الشمال أفريقي في(القرن 19)، تصير اليوم وحدات تصنيف مضلّلة تهيمن ليس فقط على الخطاب السياسي الدولي المنشغل بالوضع الليبي حسب معطياته الجيوسياسية والاقتصادية، بل تجد القبول لدى منظومات التحليل والتفسير المحلّية، وتشّق طريقها من سوء الحظ كوحدات ذهنية متحّكمة إلى وجدانات وعقول المنتفضين الليبيين الذين صار بعضهم بعد التحرير لظروف ومعطيات معيّنة لامجال هنا لتقييمها لاعبين سياسيين فعليين، فتوّجه بوصفها قيما أخلاقية، سلوكهم السياسي وتسوّره في الشعارية المتداولة: الحفاظ على مبادئ وأهداف ثورة 17 فبراير. وهو أمر يجعل الحديث عن السياسة التي تقود الأطراف المختلفة، بل المتنازعة، إلى التفاوض في نظر المتشائمين ضرباً من العبث المهدر للوقت، وبالنسبة للمتفائلين فهو في الغالب جهد سيمتد في عملية طويلة وشاقّة ولايسفر عن حل سريع وناجع للنزاع.

تميل القوى المتنازعة إلى عدم تجزئة النزاع إلى أصل وفروع، أي إلى قضايا رئيسية وفرعية، ما يخلق طرقًا مسدودة

نحن الذين نعمل في المنتصف، في منطقة التحليل والتفسير التي تشتغل على أنظمة الإدراك التي ذكرناها والمغشّاة بالمظاهر المضللة، التي تخفي وراءها المصالح والتطلّعات والمخاوف أيضا، نسعى جهدنا بما يتوفّر لنا من معرفة أن نُدخل على رؤية واقع ليبيا الراهن بعدا اجتماعيا سياسيا استثنائيا يزيح الغشاوة ويكشف آليات التعمية التي تتعمّدها أنظمة الإدراك تلك لتسوير العملية الحوارية الجارية منذ مدة قصيرة بين أطراف النزاع في ليبيا في الناظم الجامع للنقيضين الذي حددناه في عنوان مقالنا بالتفاوض والتمانع، والذي نستخلص عناصره التي قمنا ببلورتها في ترتيب يخدم توظيفها بالشكل الملائم لتفسير الحالة النزاعية الليبية فيما ساقه(خلدون النقيب) في كتابه الدولة التسلطيّة عن(ليون كارل براون) وهي مجموعة القواعد التي أسماها بلعبة السياسة الشرقية في ضربها البيني الذي يجلوه فيما يتعلق بتوصيف الحالة الليبية المثال المعروف باللبننة وإن كان يبدو النموذج الليبي إزاءه فقيرا وعفويا وفظّا يشبه في تدميره الذاتي نموذج الدولة، أو بالأحرى البلاد، الفاشلة المشهور بالصوملة.

إن أطراف النزاع تُظهر بدءا الممانعة الظاهرية والمعاندة والرفض لأي موقف مبدئي للتفاوض، مستبقة سياسة فرض الأمر الواقع (بخبطة) عسكرية سريعة على الأرض، وتغضّ النظر عن التغيّرات التي تطرأ على ميزان القوى العسكري الذي يظهر للرائي للمشهد الليبي مشوشا وفوضويا، وهو أمر يعيق قبول قادة الفصائل والجماعات المسلّحة التي لم تشملها المفاوضات بعد تقديم تنازلات، فكل طرف يرى بأنه الفائز في الميدان الواسع للمعركة وهو مايدفعهم إلى المماطلة والتباطؤ للانضمام إلى مفاوضات حقيقية وفعّالة.

في الوقت ذاته يلوّح كل طرف بشمولية نمط التحالفات والتخالفات، بما يسمح بدخول أي عدد من اللاعبين الخارجيين في اللعبة الحواريةـ التفاوضية، بحيث تؤدي أية مبادرة سياسية من أطراف النزاع إلى إعادة ترتيب هذه التحالفات والتخالفات، وتتخذ هذه المبادرات التفاوضية بالنظر إلى ردود أفعال القوى الخارجية الدولية وهي الأساس والإقليمية التي تمرّر عبر مبادراتها الاهتمامات والمصالح المنفردة لهذه القوى الدولية. مع ميل أطراف النزاع إلى تفضيل أسلوب التفاوض عن طريق وسطاء أو وسيط يصبح مع مرور الوقت ضامنا للترتيبات التي يمكن التوصّل إليها.

وتميل القوى المتنازعة أيضا إلى عدم تجزئة النزاع إلى أصل وفروع، أي إلى قضايا رئيسية وفرعية، ما يخلق طرقا مسدودة، مع التركيز في حالة الدخول المتمنّع في المفاوضات على لعبة النتيجة الصفرية( zero sum game) بمعنى أن مكسب لاعب سياسي يأتي معادلا لخسارة لاعب آخر، ونادرا ما يؤخذ في الاعتبار إمكانية أن يكسب الجميع أو يحصلوا على مكاسب نسبية من قضايا متفاوض عليها.

وأخيرًا، يتمحور النزاع أو الصراع حول شخصيات القادة والزعامات وميولهم الجهوية والقبلية والآيديولوجية، بحيث ما إن يتمّ التفاهم الوقتي بينهم حتى يختفي الصراع مؤقتا بين المنظومات النزاعية بالطريقة الفجائية نفسها التي بدأ بها. وهذا الأطار الزعامي الذي يأخذه النزاع يضرب بجذوره عميقا في الوجدان النزاعي الليبي وهو ما أُرخ له بالقرضابية المعركة التي وحدّت الليبيين في مواجهتهم للاحتلال الإيطالي عام 1914 وقسمتهم أيضا ومابعدها، أي ما أعقبها من مكوّنات سياسية كالجمهورية الطرابلسية التي شقّتها النزاعات الزعامية وما تلاها من أحداث أضاءها فاعلون وشهود لها في كتاباتهم كـ: فكيني والزاوي ومؤرخين كالتليسي وديل بوكا.

إن استدعاءنا لهذا الأطار الزعامي من التاريخ لايعني مقاربته أو مطابقته بالشكل الزعامي الهجين والزبوني المتهافت (clientism) الذي يخوض بعض ممثّليه المفاوضات أو ممثلين آخرين تستهدفهم الجهود التفاوضية التي تقودها ممثّلية الأمم المتحدة في ليبيا التي لايسعى هذا المقال إلى تقييم جهودها التفاوضية أو الحكم مسبقا على مآلاتها، بل يهدف أولا وأخيرا إلى تفسير أطر التفكير ونزعات المشاعر وإضاءة الذهنيات التي تختفي وراء الأفعال والأقوال.