Atwasat

في الهوية واللغة و«الدولة - الأمة» (1)

يوسف البخبخي الأحد 01 فبراير 2015, 05:38 مساء
يوسف البخبخي

إنَّ مصطلح الهوية اشتقاقًا، شديد الوضوح في دلالته والتي تحيل إلى ذلك الضمير المنفصل «هو»، المنفصل بتباينه المتمايز، إذ يواجه الضمير «أنا»، حيث تتفارق الذوات وتتراءى بوضوح الانفصال. وفي الاصطلاح لا يبتعد المفهوم كثيرًا عن دلالته الاشتقاقية «هو، هو نفسه»، فلفظ «Identité» يحيل إلى الشيء ذاته «الشيء هو نفسه» أي التماثل والمطابقة، فالهوية هنا دلالة تماهٍ وتطابقٍ بين الشيء وذاته، ومن ثم هوية الشيء هي الشيء ذاته «هو» متمايزًا عن غيره «أنا». فمفهوم الهوية بذلك هو ما يكون به الشيء مطابقًا لذاته، إلا أنَّ تطابقه لذاته قائمٌ في ظلٍّ من اختلافه، تمايزًا عن غيره، فالهوية هنا، من خلال بعدي التطابق والتمايز، هي مركب ثنائي الأبعاد، بعد الخصوصية بما هي مطابقة، وبعد الاختلاف بما هو تمايزٌ.

الهوية «الوطنية» هي مشروع قراءة، التي قد تكون إلحاحية، للسيرورة التاريخية «الوطنية» يعاد بها تفكيك ومن ثم تركيب المشهد الهوياتي «الوطني» وتشكلاته المتلاحقة والمتعددة، كحقيقة موضوعية في تطابق والواقع

وبعيدًا عن الفردي في هويته، وما تفصح عنه من سمات يتمايز بها ذاتيًّا عن الآخر، ووقوفًا عند الجمعي بما هو هوية «الأمة»، أو ما يعرف بـ الهوية «الوطنية»، وما تعلن عنه من تجليات أو خصوصيات ثقافية ولغوية «تحديدًا»، بما تمثله من تجلي حضاري، فإنَّ هذا المركب الجمعي في ثنائيته، أي الهوية «الوطنية»، يشير بدوره إلى بعض من الأوَّليات:
• إنَّ الهوية في تطابقها وتمايزها في آن، تفصح عن امتلاكها لما هو راسخ متجذر، تتفرد به في كينونتها وتتجلى به في تباين عن الآخر، أي المكون «الجوهر» الملازم للهوية، بوصفه اللبنة التأسيسية، والذي يجذر لاختلافها، إذ أنَّه العنصر الثبوتي فيها.

• الهوية وإن امتلكت الثبوتية، بإفصاحها التطابقي التمايزي «أنثروبولوجيا»، لا تستعصي على التاريخ أو تتسامى عليه، فهي ليست استاتيكية في ثبوتيتها، بل هي بفعل إنسانيتها، ديناميكية لا تمتلك انزواءً عن حركة التاريخ وانزياحته، وهى بذلك صيرورة تتأزم، بفعل الانفتاح أو ربما الاصطدام، لكى تعيد إنتاج ذاتها، فهي دالة في تفاعل دائم في ذاتها والآخر، كأنها الأفق المفتوح.

• إنَّ استجابة الهوية بدورها لإملاءات التاريخ أو إكراهاته ومن ثم صيرورتها، لا يعني إلغاؤها أو انسلاخها من جوهرها، الذي يظل متلبسًا إياها حتى وإن أرادت هي له انسلاخًا، ففعل الانسلاخ هو استجابة مأزومة، لا تؤسس لإعادة إنتاج الهوية بالقدر الذي تؤسِّس به انخراطها في وضع أو زمن «اللاهوية» أو «الهوية المأزومة»، أيًّا كانت الدوافع، إنسانية التجلي أم قداسته أم رقيه، ففعل «ولع المغلوب بالاقتداء بالغالب» هو فعل مأزوم صانع لـ «هوية مأزومة».

• تأزم الهوية و«الوطنية» تحديدًا، هو أمرٌ خطيرٌ في تداعياته، فـ«الهوية المأزومة» تصنع لعلاقة والوطن مأزومة بدورها، فالهوية «الوطنية»، بما تنشئ من ارتباط بالوطن وتجلياته التاريخية، هي مَن يضفي على الانتماء لهذا الوطن دلالته الحضارية.

• الهوية «الوطنية» هي كذلك، مشروع قراءة، التي قد تكون إلحاحية، للسيرورة التاريخية «الوطنية» يعاد بها تفكيك ومن ثم تركيب المشهد الهوياتي «الوطني» وتشكلاته المتلاحقة والمتعددة، كحقيقة موضوعية في تطابق والواقع، بعيًدا عن توهمات الذات وتشوهات الأيديولوجيا وإكراهات السلطة، وذلك في استجابة لإملاء تاريخي مفصلي، إذ تواجه «الأمة» استدعاء لحظتها الكيانية أي «دولتها».

تلك الأوَّليات وإن أحالتنا إلى الهوية بوصفها خصوصية ذات متلازمة اختلافية، فإنَّها أفصحت عن الصيرورة التاريخية للهوية بوصفها الإطار التفاعلي الذي تتشكل فيه تلك الخصوصية، فالهوية لأي أمة كانت، أي الهوية «الوطنية»، في تجليها الحضاري، أو الثقافي واللغوي، ليس لها إلا أن تكون مركبًا تفاعليًّا متعدد الأبعاد والمعالم لا يمكننا اختزاله، إقصاءً أو تهميشًا أو إبعادًا، في بُعد أو مَعلم دون الآخر. والتوحد والتعدد وإن كانا سمتين تطبعان الهوية «الوطنية»، إلا أنَّ مفهوم التوحد أو الوحدة بالشكل الذي قوربت به سياسات الهوية والتعدد الثقافي واللغوي، في العديد من دول ما بعد الاستقلال، هو مفهوم أيديولوجي يستهدف الصهر الهوياتي إذابة، تختزل وتمحو في أحادية قهرية، مما يناقض التعدد باعتباره تسليمًا بالاختلاف والتنوع، ويضاد الواقع الحياتي المعاش في تمظهراته الثقافية واللغوية، وهى تستدعي تاريخًا يتجاوز الآني وإكراهاته.

ولعل تجربة الدولة الأيديولوجية المعاصرة وما سعت إليه في بعض مراحلها من دمج هوياتي خلاصي، وما أحدثه تبعًا من تشوه شخصياتي، في تضاد والسيرورة التاريخية للسياق «الوطني» في هكذا دول، عنا ليست ببعيدة. ومن ثم فإنَّ الهوية «الوطنية» لا يمكن أن تقترن بصفة واحدة، الوحدة أو التعدد، بل بالصفتين معًا على حد سواء، فبقدر ما يطبع التعدد الهوية الثقافية واللغوية، فإنَّ الهوية «الوطنية»، كمركب ديناميكي، تظل واحدة لا تقبل التشظي. فهي هوية وإن تعددت في تعبيراتها، فليس لها إلا أن تتقولب في نسق واحد متناغم، من وحدة الأرض إلى «الأمة» إلى الحضارة، في تواصل تاريخي تراكمي. فالهوية وإن تعددت، ثقافيًّا ولغويًّا، يظل لها ذلك الجامع «الوطني» الممتنع عن الانقسام أو الاختلاف. ويعني هنا بذلك الجامع «الوطني»، «الأمة» في حداثتها، إذ يتدافع الجغراتاريخي والسوسيوثقافي، أو البعض منه، والحاضر السياسي نحو وحدة جغراحضارية في تطابق تمايزي، شأنها شأن الهوية.

ولعل أمتنا «الأمة الليبية» في تطابقها التمايزي، مثال يجسِّد الوحدة وهي تتعدد في نسق هوياتي، ألا وهو الهوية «الليبية» إذ تتناغم في محددات تكوينية وروافد تعززها.

فما هي يا ترى تلك المحددات والروافد؟