Atwasat

الشبيهان: مصرـ تونس.. وبالعكس

سامي البلعوطي الإثنين 26 يناير 2015, 10:55 صباحا
سامي البلعوطي

«مصر ليست تونس».. عبارة رددها أركان نظام مبارك، وجهازه الإعلامي عقب إطاحة الشعب التونسي زين العابدين بن علي، في محاولة يائسة لتجاهل حقيقة أنَّ مصر كانت حبلى بالثورة، وأنَّ الانفجار قريبٌ وقادمٌ في أي وقت، قبل 25 يناير 2011 أو حتى بعد هذا اليوم.

«مصر ليست تونس» ربما.. لكن في عصر العولمة الإعلامية كان نجاح الثورة التونسية في15 يناير 2011 بهروب بن علي، مثالاً مغريًا أمام المصريين، خصوصًا الشباب، لإمكانية الخروج يوم 25 يناير وكسر حاجز الخوف، غير مبالين بالأجهزة القمعية، رافضين الاستسلام لما تمارسه من قهر.

وفي الحقيقة كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية متشابهة في مصر وتونس، فالفقر والبطالة والتهميش قد أنهكت الشعبيْن، والظلم والفساد بلغا مستويات عززت وقوع الانفجار، فيما انشغلت النخبة الحاكمة بتأمين وجودها وثرائها، مما أدى إلى تآكل شرعية النظاميْن في البلديْن.

ولم يكن اندلاع ثورتي تونس في 17 ديسمبر 2010 ومصر في 25 يناير أمرًا وليد اللحظة، فقد سبقتهما إنذارات مبكرة تمثَّلت في تصاعد الاحتجاجات والإضرابات والاعتصامات.

الثورة المصرية سبقت تونس هذه المرة، حين تجمَّعت قواها بعد الإعلان الدستوري في نوفمبر 2012 وحتى 30 يونيو 2013، لتسقط ثاني رئيس خلال عاميْن ونصف، وتؤكد أنَّ «شرعية» الانتخاب ليست بيعة

في تونس لم تمنع القبضة الأمنية من اندلاع غضب أهالي المناطق المهمَّشة من وقت لآخر، مثلما وقع من مظاهرات دامية في ولاية باجه شمال غرب البلاد وأخرى في ولايتي مدنين وقفصة في الجنوب.  بينما اتسمت احتجاجات المصريين وإضراباتهم بالتصاعد منذ عام 2006، ولم يكن ينقص المصريون غير توافر ظرف ذاتي يفجِّر ويوحِّد طاقاتهم ضد نظام استنفد فرص بقائه عبر 30 عامًا.

في عام 2006 وقعت 222 حالة احتجاج، قفزت في العام التالي إلى 614 حالة ثم إلى 609 حالات في عام 2008، كان أبرزها إضراب عمال المحلة الكبرى وما صاحبه من مشاركة شبابية وسياسية واسعة احتجاجًا على الغلاء والفساد، لترتفع بعدها إلى 700 حالة في عام 2009، حتى وصل إجمالي عددها خلال السنوات الخمس إلى 2529 حالة احتجاج واعتصام وإضراب بنهاية عام 2010، وهو رقمٌ لم تشهد له مصر مثيلاً في وتيرته المتصاعدة، وفي توزيعه الجغرافي، إلا في عهد المعزول، محمد مرسي، حين قفز عددها إلى 2710 حالات في الأشهر الستة الأولى من حكمه فقط.

ولم يكن غريبًا عقب نجاح الثورة التونسية أن يندفع مصريون فقراء يائسون إلى تقليد «بوعزيزي» بحرق أنفسهم، فمعدلات البطالة والفقر كانت قد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، وقبل حادثة «بوعزيزي» بنحو عامين، وبالتحديد في النصف الأول من عام 2008 قُتل 14 مصريًّا وأُصيب 191 آخرون أثناء الصراع المحموم على رغيف الخبز المدعوم، حدث ذلك في أماكن عدة، في القاهرة (المطرية) والجيزة (الهرم) والإسكندرية (المندرة) وفي قرى ومدن الشرقية والدقهلية والمنيا وسوهاج وغيرها، بل وأسفرت المصادمات بين هؤلاء الفقراء وقوات الأمن عن اعتقال 137 مواطنًا!

وفي نهاية عام 2010، كانت السياسات الاقتصادية الفاشلة قد أفقرت نحو 31 مليون مصري يمثلون 40% من السكان، وقذفت بنحو 16 مليون مواطن إلى العيش في مناطق عشوائية خالية من أسباب الحياة الكريمة، وأدت إلى بطالة 7.3 مليون مواطن، نصفهم على الأقل يعيشون في المناطق الريفية، ونسبة معتبرة بينهم من خريجي الجامعات والتعليم المتوسط.

بل إنَّ الطبقة الوسطى التي تكافح منذ سنوات السبعينات من أجل البقاء، لم تعد طبقة متجانسة، إذ طال فئاتها الوسطى والدنيا غلاء متصاعد، تتآكل معه القيمة الحقيقية لدخلها أو أجورها، مما هدد مكانتها ومستوى معيشتها، ولم يعد أمامها إلا اللجوء إلى أعمال إضافية حتى أُنهكت ماديًّا ومعنويًّا، وباتت الفئات الدنيا منها على شفا الوقوع في دائرة الفقر المدقع، إذ عانت عجزًا دائمًا في ميزانية الأسرة وعاشت على الاستدانة شهرًا بشهر.

أما الفئات العليا من الطبقة الوسطى، خصوصًا المنتجين من رجال أعمال، فقد حاصرتهم سوق تتحكم فيها آليات الفساد و«رأسمالية المحاسيب»، وساد بينهم شعورٌ بأنهم يواجهون أحد مصيريْن، إما الرضوخ لعمليات ابتزاز باقتطاع جزء من أرباحهم لحساب بعض كبار السياسيين، أو التوقف عند سقف محدد في مستوى نشاطهم الاقتصادي، وهو صراع تنبأ به وجسَّده بإبداع «أسامة أنور عكاشة» في الجزء الثالث من «ليالي الحلمية».

لهذا لم يكن غريبًا أنْ يشارك بعض رجال الأعمال في الثورة، أو يساهم في بعض الاحتياجات اللوجستية للمعتصمين في ميدان التحرير، من خيام وبطاطين ومواد طبية بل وبناء دورات مياه. وكان طبيعيا أنْ يكون من بين أبناء الطبقة الوسطى بفئاتها العليا والدنيا شباب دعوا الشعب إلى النزول في الشوارع يوم 25 يناير 2011، شجعهم ما حدث في تونس وما امتلكوه من أدوات حديثة للاتصال، لينفجر خلال 18 يومًا مخزون الوطنية وطموح الحرية والعدالة الاجتماعية.

ولما كان انضمام اتحاد الشغل التونسي للثوار حاسمًا في الإطاحة بزين العابدين، فقد كان انحياز الجيش لثورة المصريين دوره الحاسم في «تخلي» مبارك عن السلطة، فلا عقيدة الجيش تسمح له بقمع المصريين، ولا القوى التي ثارت قادرة أو متفقة على طرح البديل.

ودخل البلدان في مسارين متعارضين شكلاً، متطابقين في الجوهر، الدستور أولاً في تونس، والانتخابات أولاً في مصر، فقد غاب التوافق والتعبير عن قوى الثورة بسيطرة تيار الإسلام السياسي على السلطة، الحكومة والمجلس التأسيسي في تونس، والبرلمان ثم الرئاسة في مصر.

مع سقوط «الإخوان» في مصر، فهم «إخوان تونس» الدرس، وطأطأوا رؤوسهم أمام العاصفة، بعد أسابيع من حديثهم عن الانقلاب على «الشرعية»

ورغم تفاصيل كل مسار، كانت النتائج على الأرض متشابهة، خمس حكومات تتوالى في كل بلد، آخرها علي العريضي في تونس، وهشام قنديل في مصر، فشلت جميعها في اكتساب رضا الشعبين، ليشهد البلدان موجة احتجاجات وعنف وإرهاب، فلا عدالة اجتماعية تحقَّقت، ولا دستور متوافقًا عليه أُنْجِزَ.

والتقى المساران بعد ثلاثة أعوام عند النقطة نفسها، تعثر المسار السياسي وفشل السياسات الاقتصادية لحكومتي «النهضة» «والإخوان» في أنْ تغير أوضاع ما قبل الثورة بل زادتها سوءًا على سوء.

غير أنَّ الثورة المصرية سبقت تونس هذه المرة، حين تجمَّعت قواها بعد الإعلان الدستوري في نوفمبر 2012 وحتى 30 يونيو 2013، لتسقط ثاني رئيس خلال عاميْن ونصف، وتؤكد أنَّ «شرعية» الانتخاب ليست بيعة، بل عقدٌ يمكن للشعب أنْ يفسخه، لكن «الإخوان» ورئيسهم، فشلوا كعادتهم في قراءة اللحظة، وفي فهم مغزى إنذار القوات المسلحة، وتوقف بهم التاريخ عند «غزوات الصناديق».

وكما تأسست في مصر جبهة إنقاذ وحركة «تمرد» سار التوانسة على الطريق نفسه، وأضحى درس ثورة 30 يونيو مغريًّا للتكرار، ليصعِّد التوانسة من احتجاجاتهم ويبدأ «أسبوع الرحيل» وإنذار »اتحاد الشغل».

ومع سقوط «الإخوان» في مصر، فهم «إخوان تونس» الدرس، وطأطأوا رؤوسهم أمام العاصفة، بعد أسابيع من حديثهم عن الانقلاب على «الشرعية»، عندما قبلوا بالخروج من الحكم، وإن لم يخرجوا من السلطة بسيطرتهم على المجلس التأسيسي، وبدأ تشكيل حكومة انتقالية محايدة، بينما الدستور لم يصادق عليه بعد.

وبدا وكأن البلدين دخلا في مسارين متعارضين شكلاً، لكن سرعان ما جرى التوافق على الدستور في البلدين (14و15 يناير في مصر و26و27 في تونس)، لتُجرى انتخابات برلمانية ثم رئاسية في تونس ويتراجع حزب النهضة الإخواني برلمانيًّا كقوة ثانية، ورئاسيًّا بهزيمة المرزوقي، لينجح المجتمع المدني واتحاد الشغل و«ذكاء النهضة» في العبور إلى مرحلة انتقالية جديدة سيختبر نجاحها مرة أخرى الاقتصاد.

في حين قدَّمت مصر الانتخابات الرئاسية على البرلمانية التي ستُجرى في مارس المقبل، لكن الجديد عن تونس أنَّ جماعة الإخوان خرجت من المشهد حين أصرت على ما سمي بـ«شرعية الرئيس وشرعية الصندوق»، ودخلت في صراع صفري مع النظام السياسي الذي تبلور بعد ثورة 30 يونيو، لتخسر كل ما حصدته في صناديق انتخابات يناير 2012، وغدت جماعة إرهابية منبوذة من الطبقة الوسطى، خصوصًا فئاتها الوسطى والدنيا.
حقًا لم تكن مصر مثل تونس.. لكن بقيت أسباب الثورة وآمال الشعبين واحدة.