Atwasat

رجالات زمان!

عطية صالح الأوجلي الخميس 06 مارس 2014, 12:59 مساء
عطية صالح الأوجلي

في إحدى مقالاته، يتحدث السياسي العراقي المخضرم عدنان باجه جي، وهو الذي عاصر عهود الملكية والجمهورية والاحتلال الأميركي، بأسى وحسرة عن رجالات السياسة الآن عند مقارنتهم برجالات عهد الاستقلال؛ فرجالات العهد الملكي كانت صفاتهم الشخصية ونزاهتهم مثار الإعجاب؛ فهم كانوا رجال دولة ولم يلهثوا وراء المناصب أو المال أو الشهرة.

ويستطرد قائلاً: "كان هدف وعمل السياسيين العراقيين هو الوطن والناس، وكانوا مثقفين ومنفتحين وما عندهم هذه القسوة التي نشهدها اليوم، يختلفون سياسيًّا أو فكريًّا، لكنهم يبقون أصدقاء وأصحابًا، ولا قاتل ولا مقتول ولا سجن ولا خطف، بل إن السياسيين حتى إن كانوا مختلفين إلا أنهم يتزاورون ويتبادلون الأحاديث الاجتماعية كأحبة، وغالبًا ما يأتون مع عوائلهم، زوجاتهم وأبنائهم، لتوطيد اللحمة الاجتماعية فيما بينهم".

هذا الحديث عاد بي إلى رجالات الدولة الليبية عند استقلالها، وتذكرت كيف كنا نراهم من خلال الدعاية والتحريض وكيف أصدرنا، كفتية صغار السن، أحكامًا قاسية عليهم حتى وقع الانقلاب ورأينا كيف أن هذه الأحكام كانت واهية ولا أساس لها وأنها مجرد إشاعات ماكرة وجدت آذانًا وعقولاً يافعة وغاضبة، فصدقتها.

لقد كنا نسمع ونصدق القصص التي تُقال حول العمولات والسرقات والبزنسة، مما جعلنا، نحن الشباب آنذاك، ننتظر على أحرِّ من الجمر موعد المحاكمات لنشهد فضائح العهد الملكي. وكانت دهشتنا جميعًا كبيرة عندما نجحت المحاكمات في تبييض صفحة معظم رجال المملكة وأظهرت سذاجة ورعونة كل من: بشير هوادي وعمر المحيشي. لقد كانت محاكمة للانقلابيين أكثر منها محاكمة للعهد الملكي. وكانت لحظة تحول في الوعي السياسي لدى الكثير من الشباب.

عادت بي الذاكرة إلى المحكمة التي أجراها العهد الانقلابي لرجالات العهد الملكي. وكيف كان رد الأستاذ حسين مازق على سؤال لرئيس المحكمة الرائد بشير هوادي عن علاقة مازق بالملك إدريس، رحمهما الله. وكان السؤال يحمل نفسًا تهكميًّا واستفزازيًّا توقع هوادي إجابة عنه تدل على التنصل من السيد مازق، لكن المرحوم حسين مازق أجابه بوضوح وببساطة وبرجولة يتذكَّرها الذين عاصروا تلك المرحلة: "علاقتي به أكبر مما تظن، إنها علاقة روحية". ساد الصمت في المحكمة لدقائق، ليقطعه تذكير حسين مازق لـ"هوادي" بعبثية أن يقاضيه أحد الرجال الذين انقلبوا ضده (كان هوادي عضو مجلس القيادة) فذكره ببيت شعر المتنبي الشهير:
"يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم".

لقد أفزعت كلمات المرحوم مازق رئيس المحكمة هوادي الذي قاطع المرحوم مازق بالصراخ: "أنا مش خصمك". وبكلمات أخرى عبَّرت عن حدة لا تتناسب مع عمق وبساطة كلمات حسين مازق. وعندما أصدرت المحكمة أحكامها نال حسين مازق عشر سنوات على الرغم من أن سير المحاكمة لم يثبت عليه فسادًا أو خيانة، كما كان أنصار الانقلاب يروِّجون. أتذكر ذلك الموقف جيدًا. وأتذكر اعتزاز مدينة بنغازي بشجاعة السيد حسين مازق.
رحل مازق والمحيشي واختفى هوادي. وتبقَّى التاريخ الذي ينتظر من يتأمله ويحلله ويستوعب العبر منه.