Atwasat

ليبيا اليوم.. ودستور 1951!

نوري رمضان الكيخيا السبت 22 فبراير 2014, 12:41 مساء
نوري رمضان الكيخيا

عندما نجح الرعيل الأول من الآباء المؤسسين لدولة ليبيا الحديثة في انتزاع استقلالها من مخالب دول الحلفاء بُعَيد انتصارها في الحرب العالمية الثانية على دول المحور، وعندما صوَّتت أغلبية الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح استقلال ليبيا، جاء قرارها مطابقًا لتطلعات الشعب الليبي ورغبته في إقامة دولة ديمقراطية. بعد معاناته آثار الاستعمار الفاشي الإيطالي.

وعلى أثر قرار الأمم المتحدة، تشكلت في ليبيا هيئة دستورية عُرفت باسم لجنة الستين. عشرون ممثلاً عن كل ولاية (طرابلس وبرقة وفزان)، وهي الجمعية التأسيسية التي قامت بصياغة الدستور ثم إصداره في اليوم السابع من شهر أكتوبر 1951، أي قبل إعلان الاستقلال في 24 ديسمبر 1951 بشهرين. من هنا تأتي الأهمية التاريخية لدستور 1951؛ حيث جاء مؤسسًا لدولة ليبيا الحديثة، دولة الاستقلال؛ فبموجب هذا الدستور تحدَّد شكل الدولة ونظامها السياسي. وبناء على ذلك استقلت ليبيا تحت اسم المملكة الليبية المتحدة؛ حيث قامت الجمعية التأسيسية، بموجب السلطات الممنوحة لها من قِبَل الأقاليم الثلاثة، بإعلان الأمير محمد إدريس المهدي السنوسي، ملكًا دستوريًّا على ليبيا.

إن الدماء الطاهرة التي سالت غزيرة على تراب ليبيا من أقصاها إلى أقصاها لم يضحِّ أصحابها من أجل أن تُسرق ثورتهم، وبكل تأكيد لم يضحوا من أجل اللصوص والمتسلقين الذين استباحوا ثروات ليبيا ونهبوا وينهبون خيراتها، خاصة من يدَّعون زورا وبهتانا أنهم يمثلون مصالح الشعب الليبي، وهم في الحقيقة على طرفي نقيض مع مصالح الشعب؛ فليس بالتطاول على اختصاصات السلطات المختلفة تمثل مصالح الشعب، وليس باحتكار السلطة التشريعية وتغولها على حساب سلطات أخرى. لقد تم التطاول على اختصاصات السلطة القضائية، كما حُجِّم نسبيًّا دور السلطة التنفيذية. وهناك محاولات للحد من فاعلية السلطة الإعلامية التي من حين إلى آخر تسلط أضواءها على بعض الممارسات الملتوية داخل المؤتمر وكأنها تذكر بمؤتمر الشعب العام.

إن مصالح الشعب تتلخص في كلمات (مفاتيح) ثلاث، هي: بناء وطن "يطعم ويعالج ويثقف". وحتى تكون هذه الكلمات حقيقة مجسدة على أرض الواقع، لا بد من عودة الوطن إلى أهله، ولا أن يكون مخطوفًا رهينة في أيدي مافيا السلاح وأمراء الحرب وعصابات الإجرام المنحرفة. كما لا يجوز للوافدين الجدد على الحكم أن يسعوا لتكوين ميليشياتهم الخاصة لحماية مصالحهم الشخصية.

فالعلاقة التي تنشأ بين المواطن ووطنه هي علاقة جدلية، تتلخص في أن يجد المواطن في ربوع وطنه أمنه وأمانه، كما يجد أن حقوقه كإنسان محفوظة ومصونة. فهذا حق من أبسط حقوقه في وطنه الذي يرعى له مواطنته، وبالمقابل فإن على المواطن أن يقوم بواجباته نحو وطنه ابتداء من التضحية بالنفس والنفيس، دفاعًا عن أرض الوطن ووحدة ترابه وحمايته من محاولات الهيمنة الأجنبية وعدم المساس بسيادته الوطنية، وهكذا يجب أن تؤخذ هذه العلاقة الجدلية بعين الاعتبار.

لقد أكد دستور 1951 هذه العلاقة الجدلية بين المواطن الليبي ووطنه، وذلك عندما أكد احترام مواطنته وما تتطلبه تلك المواطنة من صون وحماية.

إن ليبيا اليوم في حاجة ماسة وملحَّة للخروج من محنتها وتضميد جراحها والعودة إلى كامل عافيتها، حتى تتمكن حكومتها من إنجاز برامجها في إطار من الشرعية الدستورية. ويكون من الحكمة بالتالي تبني وثيقة دستور 1951، بعد إجراء التعديلات اللازمة عليه وطرحه للاستفتاء.

أما العمل بموجب "إعلان دستوري" سيئ الصيت، فهو استهتار بدماء الشهداء وهو العمل بهدف إفراغ ثورة 17 فبراير من محتواها؛ فهي ثورة كرامة لا ثورة جياع، وهي ثورة شعب لا ثورة نخبة. إن ليبيا، التي يمتد تاريخها إلى ما قبل التاريخ، قادرة اليوم بفضل المخلصين من أبنائها على أن تخرج من محنتها وتعود تلك الفتية التي أبهرت العالم في بداية استقلالها الذي لم يدُم، بكل أسف، طويلاً من العام 1951 وحتى العام 1969.
وبناءً على ما سبق، فإن ثورة 17 فبراير مطالَبة الآن بضرورة تصحيح المسار والحد من تلك الممارسات الانتهازية وإلزام الجميع باحترام إرادة ليبيا وعقول مواطنيها وضرورة الكف عن ممارسة "العطايا والهبات والمنح" التي سبق للطاغية ممارستها؛ فممارسة الرشوة مع شباب الثورة هي في الواقع محاولة سيئة لتحويلهم من ثوار أنقياء إلى مرتزقة مأجورين.

إن منطق الأشياء يقول: إن حل أزمة المجتمع الليبي لا تتأتى باستخدام المسكنات وعقاقير التنويم، بل بتقديم حلول جذرية وسريعة، ابتداءً من ضرورة حل أزمة البطالة وتوفير فرص عمل متنوعة للشباب على وجه الخصوص والعاطلين عن العمل عمومًا، فكل حسب ميوله وقدراته. وبحل أزمة البطالة، يتزامن معها بالضرورة حل أزمة العلاج على كامل التراب الوطني، وذلك بتوفير المستشفيات والعيادات العامة والخاصة وتوفير العناصر المتعلمة والمدربة في جميع المجالات مع توفير المعدات اللازمة لقطاع الصحة وتشديد الرقابة الصحية والتركيز على قطاع الطب الوقائي وكذلك مراكز البحوث الطبية والعلاجية، ومما لا شك فيه أن ليبيا قادرة على توفير تلك الاحتياجات وتحقيق تلك المطالب.

وللحقيقة والتاريخ، لقد أكد دستور 1951 أن جميع الليبيين متساوون أمام القانون؛ فكانت البعثات الدراسية إلى مصر ثم بعد ذلك إلى دول أوروبا وأميركا مكفولة لكل الليبيين من دون أي نوع من المحاباة أو التفرقة بين الطلاب بغض النظر عن أصولهم الاجتماعية أو العرقية، وبالتالي اعتبر قطاع التعليم أكبر إنجازات دولة الاستقلال، فكانت عودة الخريجين الأوائل لأرض الوطن بمثابة الجائزة الكبرى لسياسة التعليم في ليبيا آنذاك.

على ليبيا اليوم أن تأخذ مستقبل الأجيال الصغيرة بيدها وألا تترك للعابثين مجالاً لإهدار الطاقات وتخريب التعليم، وتتبنى سياسة التعليم المبكر والإلزامي ابتداءً من رياض الأطفال وحتى المرحلة الثانوية مع تأكيد مجانية التعليم وإدخال التدريب المهني في المرحلة الثانوية، وتأكيد حرمة الجامعة وتشجيع مراكز البحث العلمي في جميع التخصصات. وهكذا عندما يصلح التعليم تصلح معه الكثير من القطاعات، خاصة في مجال انتشار الثقافة وتوسيع ضفافها لكي يصبح المجتمع بواسطتها متقدمًا معطاءً تنطلق فيه روح الخلق والإبداع.