Atwasat

الحِسبة: مغالطةٌ تاريخيٌة وتاريخٌ من المغالطات

عبد الوهاب العالم الثلاثاء 23 ديسمبر 2014, 12:34 مساء
عبد الوهاب العالم

استعلان الجماعات الجهادية في ليبيا ودعايتها لمشروعها السياسي للبلاد من خلال العمليات النوعية أو المواكب الاستعراضية أو بالتحريض ضد الديمقراطية.. يوجب علينا نحن «الرعية» فهمَ وإدراك ما تعدنا به هذه الجماعات مستقبلا، لاسيما أنها لم تفصح عن «مشروع سياسي» فعلي، بل اكتفت بنشر مقاطع مصورة لأرتالها العسكرية وعملياتها الحربية.. فإذا أردنا-كمواطنين- التعرف على جوانب من مشروعها السياسي ليس أمامنا سوى البحث في هذه المقاطع المصورة!

وقد نتمكن بالفعل من تحديد ماهية هذا المشروع من خلال أحد المقاطع الذي يصور موكبا استعراضيا لتنظيم الجهاديين شرق البلاد، ظهرت فيه سيارات عسكرية مكتوب على إحداها كلمة"الحسبة".. وعلى الأخرى الشرطة الإسلامية!

ومن خلال هذه السيارات يبدو لنا أن تطبيق المشروع السياسي للجماعات سيكون باسترجاع وظائف ظهرت في صدر الإسلام و العصر العباسي! أي استرجاع ما كان معمولاً به قبل ألف وأربعمئة سنة تقريبًا!

وبما أننا أناس ومواطنون مرتبطون بمستقبل ليبيا فنحن ملزمون بمعرفة الدين والسياسة، خصوصًا إذا تقاطع أحدهما مع الآخر.. وبعد قراءة لمعنى ودلالة الحسبة وبحث في تاريخها وددت نقاش بعض الإشكاليات التي تعترض تطبيق هذا المشروع، نتوقف عندها تباعًا في بحثنا عن الحسبة حتى نصل إلى حقيقة علاقتها بالإسلام نفسه!

فالحِسبة، كما يخبرنا معجم المعاني الجامع: هي حسن التدبير، أما في لسان العرب، فهي: اسم من الاحتساب. وعند ابن فارس صاحب معجم مقاييس اللغة فإنها تعني: العدّ والإحصاء.

إذا من حيث اللغة، الحسبة هي فعل يتعلق بالحساب والاعتداد.. ولكن بما أن تطور الكلمات ملازم لتطور أحداث الحياة الواقعية.. فقد تطورت الحِسبة- بحكم تغير الزمن والظروف- إلى وظيفة دينية... وهكذا عرّفها الماوردي (ت 1013) الذي أصبحت الحِسبة على عهده: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله. (1: 315)*

يؤكد ابن خلدون (ت 1406) مضيفًا إلى ما قاله الماوردي: «وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرضٌ على القائم بأمور المسلمين، يعين لذلك من يراه أهلاً له» (2: 283) إذا الحسبة اصطلاحًا: وظيفة إسلامية رقابية تستند على القاعدة الدينية العامة، القائلة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الحِسبة في معجم المعاني الجامع: هي حسن التدبير، أما في لسان العرب، فهي: اسم من الاحتساب. وعند ابن فارس صاحب معجم مقاييس اللغة فإنها تعني: العدّ والإحصاء.

ويوضح لنا ابن خلدون في مقدمته المهام الرئيسية للمُحتسب (وهو من يقوم بوظيفة الحِسبة) فيقول: «المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها.. والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان والمتعلمين.. وما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وفي المكاييل والموازين». (2: 283-284).

وهنا تظهر لنا أولى إشكاليات الحِسبة، وهي هويتها الإسلامية (وظيفة دينية). فعند النظر في اختصاصات المحتسب كما سردها ابن خلدون والتي يتفق فيها مع الفقهاء وعلماء الشريعة مثل ابن تيمية والشيزري وغيرهما، كما سنرى، سندرك، عند النظر في اختصاصات المفتش الإسلامي، أن الحِسبة ليست وظيفة إسلامية على الإطلاق. فوظيفة المفتش/المراقب هذه كانت شائعة عند غير العرب قبل ظهور الإسلام أصلاً.. فعند تتبع الحياة الاقتصادية والأمنية في المدن اليونانية القديمة نجد ما كان يدعى بأغورانوموس Agoranomos وهو موظف يُعين من البلدية وقد ينتخب من قبل المواطنين.. يقوم بمهام التفتيش والإشراف.. وكان من ضمن عمله الاهتمام بدورالعبادة.

وقد ورثت الإمبراطورية الرومانية(الأغورانوموس) وطوّرت في أدائه وصلاحياته وصار يعرف بـ Prfect..كذلك ظهر المفتش في مصر القديمة باسم Logiste الذي يختلف عن النموذج الروماني واليوناني في أن عمله مقتصر على مراقبة الأسواق دون التدخل في الجوانب الدينية..

وفي حواضر سورية وفلسطين ظهر المفتش أيضًا باسم Episcopos وهو الأقرب للمحتسب الإسلامي. فعمله الرقابي يشمل الجانب الأخلاقي والديني كما يشمل رقابة السوق والأمن(3).. وليس مستبعدا أن يكون المسلمون قد أخذوا عند فتحهم الشام هذه المهنة كما هي..غير أنهم بدلوا"السند الديني" للحِسبة. فبعد ما كانت مسيحية أو وثنية.. صارت مع الحكام المسلمين:وظيفة إسلامية!!

ومن هنا نتفهم ضبابية تاريخ الحسبة في الإسلام.. فقد ذكر الطبري (ت. 923) بأن أول ظهور لوظيفة رقابية باسم الحسبة يشغلها عامل يدعى (المحتسب) كان في عهد الحكم العباسي وكانت بهدف السيطرة على ظاهرة انتشار وتوسع الأسواق في دولة بني العباس! (4: 480)

وبهذا اختلف الطبري عما ذكره علماء الحديث والمؤرخون مثل الترمذي والبخاري ومسلم الذين ذكروا- كما سنرى لاحقا- أن الرسول كان يحتسب على عهده ويمر على الأسواق آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، ثم استعمل الصحابي سعد بن سعيد محتسبا على سوق مكة وجعل عمر بن الخطاب محتسبا على سوق المدينة وحين تولى عمر الخلافة وضع مكانه الصحابية الشفاء بنت عبد الله العدوية!!

فهل أدرك علماء الشريعة أن الوثنيين قد سبقوهم في اختراع وظيفة الحِسبة وأن الإسلام لم يأتِ بها؟ أم اعتقدوا أن لها أصولا شرعية من القرآن والسنة؟

أغلب الفقهاء يستندون على مشروعية الحسبة بآيات قرآنية اعتبروها تتحدث عن وظيفة رقابية، رغم أن جميع الآيات لم تذكر فيها كلمة(حِسبة)، ومن هذه الآيات الشواهدما ورد في سورة آل عمران الآية 104:(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكرِ) وقوله في سورة التوبة الآية 71: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر).

وأيضًا:(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) سورة الحج الآية 41.

كذلك يستدل الفقهاء بأحاديث على غرار: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).(5: 42)

ومثل: (غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر). (حديث رقم 2333 ).

والجدير بالملاحظة أن الحديث الأول لم يوصِ بالنهي عن المنكر وإنما تغييره!! ولم تُحدّد طريقة النهي أو التغيير. فإذا كان باليد فما هو نوع العقاب أو الجزاء المسموح به؟ الضرب أم الجلد ؟ أم هو القتل؟ وإن كان باللسان كما جاء في النص فبأي قول يتم؟ وإن كان بالقلب فهل هو بالتمني أو الصبر أو الدعاء؟ وكيف يكون كف الأذى المذكور في الحديث الثاني؟ يمكننا اعتبار هذه التساؤلات ثاني إشكاليات قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فالنصوص عامة لدرجة أنهامتاحة أمام أي شيخ يجيد مهمتي التفسير والتأويل..فـ"طواعية" النص الديني، كانت السبب وراء جرائم فظيعة ارتكبت طوال التاريخ الإسلامي.. فقد قُتل أناس وصلبوا وسجنوا وضربوا بناء على حكم المحتسبين الذين اجتهدوا بقدر معرفتهم المحدودة في ذلك الوقت.. فعلى أساس النص الحمّال للتفاسير ذاق الناس ألوان العقاب والأذى بحسب ما يراه المحتسب الذي هو عين الخليفة على الرعية!

فنحن نعلم أن وظيفة الحسبة انتظمت في عصور الحكم الإسلامي المتأخر... وهاهو الجبرتي (ت. 1825) ينقل في تاريخه نماذج سادية عن محتسبي أواخر الحكم العثماني مثل مصطفى كاشف كرد وعثمان آغا الورداني وما فعلوه من خزم الأنوف وقطع الآذان وشنق وتنكيل بجثث الباعة والتجار، كعقاب لأتفه الأسباب، وليس للرعية من خلاص. فحتى لو عزل الباشا المحتسب يجعل محتسبا آخر مكانه..(7)

إذن يبقى أمر التقليد والعزل بيد الحاكم..ولا نجد عقابا للمحتسب نفسه على أفعاله مهما تمادى وشطَّ.

وهنا تبرز ثالث إشكاليات الحسبة، فليس ثمة محتسبٌ على المحتسب!!.. أي أن المحتسب يعتمد على اجتهاده الفقهي فقط، دون قوانين تضبط عمله..مما يجعل مهمتي الحكم والعقاب مرتبطين"باجتهاد" المحتسب،لا بقوانين محددة..فليس ثمة حدُّ شرعي لمن يغش في بضاعته!! وإلا لأقام النبي الحد على صاحب الطعام كماجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام ؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس! من غشنا فليس منا». (حديث رقم 102).

ولم يأمر بقطع شحمة أذنه أو صلبه على جدران السوق كما فعل المحتسبون من بعده..يجعلك هذا تفكر في مدى شرعية الحسبة ذاتها.. وصلتها بالإسلام أصلا!

ثم إننا لم نسمع عن محتسبات نساء..غير الصحابية الشفاء العدوية المذكورة وسمراء الأسدية.. فلم تتقلد امراة هذا المنصب بعد فترة الخلفاء الراشدين.. أوليس هذا خروجا عما فعله النبي والصحابة والسلف؟؟!

وجدير بالذكر أيضا اختفاء هذه الوظيفة فجأة من التاريخ الإسلامي لتظهر مجددا خلال الحكم العباسي المتأخر، والمملوكي والعثماني من بعد.. ولأنها ظهرت متأخرة ودون ضبط شرعي واضح رغم جهود الفقهاء(8: 91) ، فإننا نقف اليوم أمام خلط رهيب بين وظيفة الحسبة والقضاء والشرطة الإسلامية!!

يقودنا هذا إلى الإشكالية الرابعة التي تعترض محاولة إحياء الحسبة، ففي عصر كاميرات المراقبة والحكومة الإلكترونية الذي نعيشه، كيف يمكننا تطبيق الحسبة، خصوصا وأن لدينا أجهزة أكثر دقة وتنظيما مثل شرطة الآداب وشرطة البلدية وأجهزة الرقابة وجمعيات حماية المستهلك؟ ناهيك عن القضاء الحديث ودوائره.. ومامدى حجاتنا لها مع كل هذه المؤسسات المضبوطة والمقننة؟

وقد واجه الفقهاء- وهم في عصر الحسبة- صعوبة تحديد المسميات الوظيفية وشروط العمل بين وظائف القضاء والشرطة والمحتسبين وما شابهها. فنجد الماوردي (سنة 1058) في مؤلفه الأحكام السلطانية (1: 315 ) يقترح تسعة فوارق بين المحتسب المعتمد من الحاكم والمحتسب المتطوع الذي ينهى عن المنكر لأنه مجرد مسلم صالح!! بيدأن هذه الفوارق التسعة لا تخلو من الضبابية، فقد يتجاوز المتطوع نطاق سلطته ويصير محتسبًا رسمياً!

اختفت هذه الوظيفة فجأة من التاريخ الإسلامي لتظهر مجددا خلال الحكم العباسي المتأخر والمملوكي والعثماني من بعد

وفي تمييزه بين القضاء والحسبة نجده( 1 :316) يُفضّل الوظيفة الثانية على الأولى، لأن للمحتسب الصلاحية للتحقيق في الاتهام وعقاب المتهم دون الحاجة للسماع من الطرف الآخر.. كما أن: «الْحِسْبَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلرَّهْبَةِ فَلَا يَكُونُ خُرُوجُ الْمُحْتَسِبِ إلَيْهَا بِالسلاطة والْغِلْظَةِ تَجَوُّزًا فِيهَا ولا خرقا» (1: 317)

ويؤكد على فاعلية الحسبة على القضاء لأنه: «مَوْضُوعٌ لِلْمُنَاصَفَةِ فَهُوَ بِالْأَنَاةِ وَالْوَقَارِ أحق..»!! (1: 318) .

أما الشيزري مؤلف «نهاية الرتبة في طلب الحسبة» فيشترط أن يكون المحتسب فقيها عارفا بأحكام الشريعة (9). ومُجَدَّدا، نقع في ذات الضبابية. فبما أن أحكام الشريعة تجاري الواقع المتغير فقد يخطئ المحتسب فيقصر أو يبالغ في العقاب.. ولا عقاب له!

وفي نفس السياق حين نقف عند ابن تيمية(ت 1263) وحديثه عن الحسبة نجده لا يعطينا ضبطا ولا تحديدا لصلاحية المحتسب سوى بصورة عابرة وسطحية في قوله: «وأما المحتسب فله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم..» (10: 209) ويؤكد في نفس الوقت على أن المحتسب في حالة أدى واجبه الشرعي وجبت طاعته!! وأن له أن يضرب ويحبس فاعل المنكر حتى وإن كان هذا المنكر عدم القيام بفريضة الصلاة، وفي حالة عجز المحتسب عن عقاب فاعل المنكريمكنه الاستعانة بالحاكم ووالي الحرب.. وكل رجل (مُطاع) قادر مار في الشارع إذا لزم الأمر! (10: 209) كذلك يضيف ابن تيمية على ابن خلدون في اختصاصات المحتسب فيجعل من واجباته أيضا: النهي ينهى عن الكذب والخيانة والغش في التجارة والبيع وحتى الدين (10: 213)

وقول ابن تيمية الأخير يوصلنا إلى الإشكالية الخامسة، فثمة حديث نبوي يقول: غلا السعر على عهد رسول الله (ص) فقالوا: يارسول الله! سعر لنا؟ فقال: «إن الله هو المُسعر القابض الباسط الرزاق، وأني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال». (11: حديث رقم: 1314)

فهاهو صاحب الدين، الشارِع يقر بأن الله هو المسعر.. ولا يقول في حديث صاحب الطعام المغشوش سوى: من غشنا فليس منا.. دون أن يعاقبه! بينما يسمح ابن تيمية بضرب وحبس المخطيء! فهل عقاب ابن تيمية دنيوي أم شرعي؟ أم يستند ابن تيمية على سنة عمر بن الخطاب الذي كان يمشي في الأسواق ويضرب بدرته من فعل منكرا؟ وإذا كان قد استند على فعل الخليفة الراشدي فمن أين جاء ابن تيمية بالحبس رغم أنه غيرمذكور في قصة عمر؟

وأين خزم الأنوف وقطع الآذان والصلب وكل ما ارتكبه المحتسبون طوال التاريخ الإسلامي من سنة الرسول الذي برأ نفسه من التدخل في أمور السوق ووكل أمرها لله؟

وليس السوق المشكلة الوحيدة هنا.. بل تعدي الفقهاء في لائحة «النهي الشرعي»- كما فعل ابن تيمية- إلى أمور أخرى غير محسوسة ترتبط بنية الإنسان التي يستحيل الحكم عليها. مثل قوله: (النهي عن الكذب والخيانة والدين).. وهذا يوصلنا إلى الإشكالية السادسة، فهذا النوع من الحِسبة على النية تطور اليوم لما يُعرف «بالاحتساب الثقافي» الذي ابتكره المحتسبون الجدد.. ويشمل الرقابة على الأفكار والحجر على الرأي ومنع حرية الإعلام والتعبير.. أقصد، كيف يمكن استرجاع هذه الأمور المعمول بها في زمن مضى في يومنا هذا؟ هل يمكنك تخيل صحفي كنت تشاهده في التلفزيون مصلوبا في الساحة العامة؟ أو إعلامية تجلد في الشارع؟ ماذا لو تخيلت مظهر بائع المواد الغذائية في شارعكم مخزوم الأنف؟ أو مثقفا ليبياً يتم سحله أو مفكرا إسلاميًا اختلف مع المحتسب يتم ضربه علنا؟ واليوم مع تطور الأحوال والظروف لم يعد من الضروري أن يرتدي المحتسب سترة مكتوبا عليها (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بل يمكنه أن يحكم عليك بالموت من وراء مكتبه ويرسل لك أحد أعوانه ليصيبك بطلقة في رأسك.. فالأمر بهذه السهولة، ونحن يمكننا تفهم أسباب ظهور الحِسبة لمراقبة الأسعار والموازين وجودة البضائع.. وممارستها بصورتها العنيفة في ذلك الوقت قبل وضع مبادئ حقوق الإنسان وتطور أجهزة الدولة الحديثة.. ولكن إذا طبقناها اليوم فلن تكون سوى ذريعة لإحياء أبشع غرائز التوحش والفوضى تحت غطاء العمل الشرعي.. والإسلام!!. ليتم الفتك بالضعفاء على يد عصابات تنوب عن الله نفسه، فأخطر الإشكاليات التي ناقشناها، ما ذكره ابن تيمية في رسالته.. وكأنه أدرك بذكائه خطورة «الاحتساب في الجوانب العقدية والفكرية» مثل «الغلو في الدين..بأن ينزل البشر منزلة الإله».. (10: 362)

ونختم في نهاية النقاش بالحكمة القرآنية التي تُحمل كل إمرئ مسؤولية نفسه ومسؤوليته أمام الله، في الأية 17 من سورة الإسراء: اقرأ كتابك.. كفَى بِنَفْسِك اليومَ عليك حَسِيباً.
-----------------------------------------------------------------------------------------
* يشير الرقم الأول إلى رقم المصدر أو المرجع في قائمة المصادر والمراجع، ويشير الرقم الثاني إلى رقم الصفحة في المصدر أو المرجع المعني.
1- الماوردي الاحكام السلطانية والولايات الدينية .تحقيق أحمد مبارك البغدادي، مكتبة دار ابن قتيبة. الكويت 1409-1989
2-ابن خلدون. المقدمة. تحقيق حامد أحمد الطاهر. دار الفجر للتراث. ط2. القاهرة. (د. ت)
3- Benjamin R.foster- Agoranomos and Muhtasib, Journal of Economic and Social History of the Orient, Vol.13 NO, April 1970
4-الطبري.تاريخ الأمم والملوك.دار الكتب العلمية.بيروت. 1407هـ
5 - صحيح مسلم. تحقيق: نظر بن محمد الفريابي ابو قتيبة، دار طيبة. الرياض. السعودية 1427-2006
6-العسقلاني. فتح الباري في شرح صحيح البخاري. دار الريان للتراث. القاهرة.مصر 1407هـ- 1986 م
7-أحمد عبد المعطي حجازي،(المحتسبون القدماء‏..‏ والجدد؟‏!‏)-جريدة الأهرام العدد44088 السنة 2007
8-يوسف زيدان: دوامات التدين. دار الشروق. القاهرة. 2013
9- محمد علي شاهين، الحسبة والشرطة والعسس في الدولة الاسلامية، موقع قصة الإسلام (www.islamstory.com) سنة 2013- وانظر: عبد الرحمن الشيزري، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، موسوعة المكتبة الشاملة الالكترونية.
10-ابن تيمية: رسالة الحسبة .تحقيق: علي بن نايف الشحوذ2007 ، نسخة موقع ملتقى اهل الحديث ص 209 http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=1392642
11- كتاب سنن الترمذي . مراجعة أحمد شاكر وآخرون. ج 3-5، دار احياء التراث العربي. بيروت،(د.ت).