Atwasat

التفكير المستقيم والتفكير الأعوج

إبراهيم اغنيوه الأحد 21 ديسمبر 2014, 03:53 مساء
إبراهيم اغنيوه

كثيرا ما نجتمع، ونتحاور ونتناقش ونتجادل لوقت طويل لحل مشكلة ما، وفي النهاية يحس الجميع بأنهم أضاعوا ساعات وساعات دون الوصول إلى حل لتلك المشكلة. ويتكرر هذا المشهد كثيرًا بشكل يبعث على أن نسأل أنفسنا: لماذا في معظم الأحيان نـُضيّع وقتنا الثمين من دون الوصول إلى نتائج إيجابية تُذكر؟

هذا السؤال هو ما يحاول الإجابة عنه كتاب «التفكير المستقيم والتفكير الأعوج»، تأليف: روبرت ثاولس، ترجمة: حسن الكرمي، عالم المعرفة، أغسطس 1979م.

يبدأ الكاتب كتابه بالحديث عن اللغة وكيفية تأثير طرق استخدامها على تشكيل الأفكار وكيفية إيصالها إلى الآخرين عند مخاطبتهم، وكذلك كيفية استقبال أفكار الآخرين وكيفية فهمها. أن التفكير المستقيم يؤدي إلى المخاطبة المستقيمة، كما أن التفكير الأعوج يؤدي إلى المخاطبة العوجاء.

ويقول الكاتب أن من أهم المؤثرات في كون التفكير مستقيم أو أعوج، طرق الاستعمال اللغوي. ومن أهم الأسباب التي ينشأ عنها التفكير الأعوج أو المخاطبة العوجاء، الخلط بين طرق الاستعمال اللغوي المختلفة. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن يخلط المتكلم بين «التعبير عن أمر واقع» و«التعبير عن كيفية استعمال الكلمات»، أو أن يخلط المتكلم بين «التعبير عن أمر واقع، والدلالة على موقف انفعالي»، كأن يصف شخص رجلاً أفريقيًّا بأنّه «أسود أو عبد» بدل أن يقول «أسمر أو أفريقي»، فهنا خلط المتكلم بين الواقع والانفعال مما أوحى للسامع بالاحتقار.

ويذكر الكاتب أمثلة أخرى على ذلك، فيقول إننا نستطيع أن نصف شخصًا ما بأنه «ثابت» في رأيه، أو أن نصفه بأنه «عنيد» في رأيه، وعلى الرغم من ما قد يبدو من تشابه في الوصفين، إلا أن الفرق كبير جدًا، فـ«ثابت» تعادل قولنا (ليس بالسهل التأثير عليه، وهذا شيء مستحب)، بينما «عنيد» هي مثل قولنا (ليس بالسهل التأثير عليه، وهذا شيء «مكروه»).

من أهم المؤثرات في كون التفكير مستقيم أو أعوج، طرق الاستعمال اللغوي. ومن أهم الأسباب التي ينشأ عنها التفكير الأعوج أو المخاطبة العوجاء

كذلك في الحروب يمكننا مثلاً وصف جندي بأنه «مقدام» ـ إذا كان معنا ـ أو وصفه بأنه «متهور»ـ إذا كان ضدنا ـ، وعلى الرغم من أن المعنى واحد إلا أن الأولى توحي بالرضا عن الجندي وبطولته، بينما توحي الثانية بالنفور من الجندي وعنجهيته.

ونفس الكلام ينطبق على وصف خطيب ألقى خطبة عصماء بأنه «بليغ» ـ إذا كان من جماعتنا ـ، ووصف خطيب آخر ألقى خطبة عصماء بأنه «متفيهق»، أو أن نصف أعضاء حزب ما بأنهم «أشداء في الحق» ـ لأنهم من حزبنا ـ، ونصف أعضاء حزب مشابه بأنهم «متطرفون»ـ لأنهم من حزب يحمل أفكار مضادة لأفكار حزبنا ـ.

ومع ذلك ـ يقول الكاتب ـ فإن استعمال الكلمات ذو الصبغة الانفعالية ليس مما يجب استنكاره دائمًا، فاستعمالها يكون ضارًا دائمًا «اذا كان الحال يقتضي إبلاغ معلومات واقعية» أو تمكين الناس من التفكير في الأمر تفكيرًا واضحًا، حتى يتسنى لهم إبداء الرأي في موضوع واقعي متنازع عليه، ولكن استعمال الكلمات الانفعالية في الشعر يكون في مكانه الصحيح لأن إثارة الانفعالات تؤلف في الشعر ـ وفي بعض أنواع النثر ـ جزءًا مهما من المقاصد التي تستعمل هذه الكلمات من أجلها.

الأمر الآخر الذي يحذر مه الكاتب هو أن نقول «الكل»، في الوقت الذي يجب علينا أن نقول «البعض»، مثل أن نقول «كل النساء غير مؤهلات من الناحية السياسية»، ولا شك أن «بعض النساء» غير مؤهلات من الناحية السياسية، كما أن «بعض الرجال» غير مؤهلين من الناحية السياسية.

ويقول الكاتب إن الصحف مليئة بمختلف الأقوال الخلافية التي كثيرًا ما تناقشها هذه الصحف والمجلات ولا تكاد تنتهي من مناقشتها، دون الوصول إلى رأي حاسم فيها، لأن صيغة هذه الأقوال موضوعة بحيث لا يمكن معرفة ما إذا كان المعنى المراد هو «كل» أو «بعض».

وخير مثال على ذلك أن نقول «أعضاء المجلس البلدي لا يعرفون حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم»، وهو «قول لا معنى له» إلا إذا استبدلناه بـ«كل أعضاء المجلس»، فحينئذ يتبين لنا أننا قلنا شيئًا له معنى ومعناه محدد، ولكنه «كذب صراح».

وإذا أردنا أن نقول قولا له معنى وقد يكون صادقًا أو كاذبًا فعلينا أن نقول «بعض أعضاء المجلس»، وهذا الكلام أيضًا في حاجة إلى مستندات تثبته وشهود تشهد على صحته.

ويقول الكاتب أنه يجب علينا أن نتخذ قراراتنا معتمدين على بيّنات، وأن نظهر مرونة في الاسترشاد بالتجربة واثقين من أن هذه التجربة كثيرًا ما تحملنا على تغيير آرائنا حول موضوعات كنا على يقين تام منها.

ويخصص الكاتب فصلا كاملا لما يسميه بـ«الاحتيالات والغش في الجدال»، ومنها استعمال العبارات السفسطائية الشائعة والتي لا يجب استعمالها في جدل نزيه مثل القول بأنّ «الاستثناء يثبت القاعدة». فإذا اتخذ أحدهم موقفًا متطرفًا مثل موقف من يقول إن أفراد الأجناس البشرية الأفريقية عاجزون عن التطور، في الوقت الذي يوجد فيه أفارقة متميزين فكريًّا، ولكن صاحب الموقف المتطرف يبرر موقفه بمراوغة وهي أن يقول «هذه هي الاستثناءات التي تثبت صحة القاعدة».

وحيلة أخرى تستعمل في القضايا الخلافية وهي حيلة «الروغان» أو «التحويل» وتكون في الدفاع عن قضية ما بالإتيان بقضية أخرى لتحويل المناقشة عن موضوعها الأصلي إلى موضوع آخر يكون صاحب عملية التحويل هذه واثقًا منه أكثر من الموضوع الأول.

كما يتطرق الكاتب في كتابه لبعض المغالطات المنطقية، ومثال ذلك القضية الآتية: كل نباتات الفطر سامة، والفقاع نبات فطري، إذن الفقاع سام. وهذه حجة سليمة، ولكن مع أنها سليمة من وجه التشكل المنطقي فإن المقدمة الأولى فيها ـ كل نباتات الفطر سامة ـ كاذبة.

ويعرج الكاتب على خطأ يقع فيه الإنسان بسبب الإخفاق في فهم العلاقة بين الكلمات والوقائع، وهذا الخطأ هو استعمال النظر العقلي أو التفكير النظري في حل المشكلات التي لا يمكن حلها إلا عن طريق المشاهدة وتفسير الوقائع. فمثلاً ما كان للإنسان أن يكتشف شيئًا عن الطبيعة والكيمياء والاقتصاد والكون إلًّا بعد أن انصرف إلى جمع المعلومات والشواهد عن هذه العلوم، بدل الاكتفاء بالتفكير النظري وحده.

والروح المعادية للعلم هي التي تحاول دائما صرف الناس عن دراسة الواقع ودفعهم إلى نسج نظريات خيالية أو الرجوع إلى نظريات وأفكار خيالية قديمة لا علاقة بها بالواقع الحاضر. ولا نكران أن التفكير النظري له موضع مشروع حتى في التفكير عن الأمور الواقعية كالإيحاء بإمكانات أو احتمالات جديدة، أي إضافة ـ ما قد يكون ـ إلى ـ ما هو كائن ـ، فغالبا ما كانت الاكتشافات في العلوم تتأخر إلى أن يخطر ببال بعضهم إمكانية جديدة ـ التفكير الإبداعي أو التفكير الغير مألوف ـ.

ولمعاني الكلمات حيز واسع في الكتاب، ويعتبر الكاتب أن التفكير ومخاطبة الآخر لهما صلة كبيرة وارتباط بمعاني الكلمات، فكلمة «إنسان» شائعة وواضحة المعنى، ولكن كلمات مثل «الديمقراطية» و«الحرية» و«الخير»، قد لا يكون لها نفس المعنى الواضح لدى المتلقي مثل كلمة «إنسان».

الروح المعادية للعلم هي التي تحاول دائما صرف الناس عن دراسة الواقع ودفعهم إلى نسج نظريات خيالية أو الرجوع إلى نظريات وأفكار خيالية قديمة لا علاقة بها بالواقع الحاضر

كذلك كلمة «لحية» مثلاً، ما معناها، هل نطلقها على خمس شعرات في ذقن لحية؟ ماذا عن ثلاثين شعرة، ماذا عن أربعين شعرة، وهكذا. المعنى هنا «تدريجي» ويلزمنا معرفة متى يتغير المعنى ـ مثلاً معرفة أن اللون الأبيض هو الذي يعكس نسبة معينة من الضوء، والنسب الأقل أو الأكثر تعطينا ألوانًا أخرى ليس من بينها الأبيض.

ينتقل الكاتب بعد ذلك ليتحدث عن «حيل الإيحاء»، مثل سحر الخطيب لسامعيه ببلاغته، ليحملهم على تصديق ما يريد منهم تصديقه. والإيحاء ـ كالتنويم المغناطيس ـ يعتمد على ثلاثة أشياء: تكرار القول الجازم، وطريقة واثقة مُصرة في القول، والوجاهة ـ كأن يكون الخطيب لاعب كرة معروف، أو فنان كبير ـ.

وخير مثال على ذلك خطبة حماسية جاء فيها «حكومتك يا حضرة الرئيس لن تخسر فإننا سننجح بالتأكيد، والشعب لن يخسر أن الشعب سيفوز، وأن الأمة لن تتردى، أن الأمة ستبرز مظفرة».

وثمة وسائل أخرى يكون عمادها الايحاء، وهي التي يملي فيها السؤال الجواب، كأن يقول احدهم لمخاطبه «حتمًا أنت قابل بمبدأ الإصلاح الديني» أو أن يقول «أنت قابل بمبدأ الإصلاح الديني أليس كذلك؟» ويمكن الوصول إلى نفس الغاية بالسؤال عن أشياء مختلفة كثيرة في سؤال معقد واحد يقتضي جوابًا واحدًا في سؤال مثلاً «هل تقر بان العدو قتل الأسري وضرب المدن بالقنابل وأطلق النار على سيارة الإنقاذ؟ أجب: نعم أم لا!!».

وينبه الكاتب إلى أهمية «عادات التفكير» و«التحيز»، فيقول إن هناك قوى في داخل عقولنا تؤدي إلى التفكير الأعوج، واثنتان من هذه القوى هما عاداتنا الفكرية ـ الاتجاهات التي ينتهجها عقلنا عادة ـ، وتحيزاتنا ـ طرق التفكير المقررة سلفا بسبب الانفعال أو المنفعة أو الارتباطات الاجتماعية مع جماعة أو جماعات أخرى ـ.

مثال ذلك أن أجدادنا لم يستطيعوا أن يشكوا في أن الأرض ساكنة لا تتحرك ولا في أن الشمس هي التي تتحرك حولها كل يوم، وقد تبين أن هذين الزعم باطل.

ومثال آخر عندما يقول أحدنا «الفرنسيون يأكلون أطعمة غريبة مستهجنة»، معتقدًا أن طعامنا مقبول ولذيذ وغير مستهجن ـ في جميع أنحاء العالم ـ.

إن عاداتنا الفكرية ـ يقول الكاتب ـ يجب أن تعرض على محك التمحيص حتى يتبين صلاحها، فكم من أمر كنا نشعر شعورًا جازمًا بصحته أصبح مثارًا للتساؤل والشك، ولا يضرنا أن نستمع لهذه التساؤلات والشكوك، وذلك لكي تكون اعتقاداتنا الراسخة أشد الرسوخ مبنية على قناعة محققة وممحصة لا على عادات فكرية لا غير.

ومن المفيد أن يقرأ الإنسان الصحف والكتب والمجلات التي تمثل وجهة نظر ليست وجهة نظرنا الخاصة، صحيح أنه قد يعتريه بعد ذلك إحساس مزعج بان عاداته التفكيرية الراسخة قد تزعزعت، ولكنه لن يخشى بعد ذلك من انتكاس في آرائه، بل تصبح أثبت منطقيا كونها أصبحت على صورة قناعات قائمة على العقل وصادرة عن عقول حرة.

ويصل بنا الكاتب إلى أن يقول إنه يجب أن يكون من أغراض التربية والتعليم احداث فضيلة في النفس يسميها «المرونة العقلية» وهي قدرة يمكن بواسطتها ارتياد سبل جديدة في التفكير والوصول إلى افتراضات إبداعية خارجة عن المألوف.

ويضيف محذرًا، أن الذين يقفون تجاه ما يخالفهم من فكر وآراء أو تجاه ما يعتبرونه هدّامًا في الكتابات والكلام موقفا يدعوهم إلى وجوب طمسه وإخماده ـ ولو بالقوة ـ، لا يكون لهم من الإيمان في معقولية الاعتقادات التي يؤمنون بها إلّا الأقل من القليل. فليس من مسألة ـ يقول الكاتب ـ ينبغي لنا أن نحجم عن التساؤل حولها، ولا من فكرة ـ مهما صدمتنا بغرابتها ـ يجب أن تمنعنا من النظر فيها نظرًا مليًّا حتى نصل من خلال ذلك إلى قرار حصيف حول ما إذا كانت صحيحة أم باطلة.