Atwasat

هل لدينا مثقفون؟

مصطفى الطرابلسي الثلاثاء 16 ديسمبر 2014, 10:50 صباحا
مصطفى الطرابلسي

في أكتوبر العام 1952م نشر الدكتور المرحوم خليفة التليسي، مقالته الشهيرة «هل لدينا شعراء؟»، واصفًا مَن يزعم بأن لدينا شعراء لا يمكن أنْ يكون إلا أحد رجلين، إما أن يكون ساخرًا، أو أنه من ذوي الوجوه (الصحيحة). وهو رأي نقدي صادر عن شخصية مطّلعة على الإنتاج الشعري في تلك الفترة؛ سواء الشرقي أو الغربي منه، ومن خلال مطالعته وتجربته الواسعة يقول بكل صراحة: (ما وجدت في إنتاج هذا البلد، إنتاجًا يرقى لمستوى شعراء الشرق، وشاعرنا -يقصد في ليبيا- في موكب هؤلاء الشعراء العمالقة، يقف كالأعرج الذي يركض في سباق، لا يجري فيه إلا الأقوياء الأصحاء.).

وقد أثار سؤال «التليسي» موجة من الحنق والغضب عليه، واعتبره البعض منتقصًا من قيمة شعراء البلد، دون الرد عليه بنماذج شعرية، وقصائد تفنّد رأيه من الأساس، وكما يقول في آخر المقالة: إنه ليسعدني ويثلج قلبي أن يتصدى لهذا الرأي ناقد بصير، مهذب القلم، واللسان فيحطمه تحطيمًا، إلخ. ولم يأتِ ناقد كما تمنى -رحمه الله- ذو بصيرة يكشف جور الحكم الصادر بحق تجارب شعراء تلك الفترة.

لعلَّه من الطبيعي والضروري أنْ نعاود السؤال، الذي سأله، ولكن بتبديل مفردة «شعراء» بـ«مثقفون». والناظر للوضع الآن في ليبيا، وهذه الفوضى العارمة التي تشمل جميع أرجاء البلد من صراع على لا شيء، ودون أي أسباب وحجج، على الرغم من الدعاوى ومبادرات «الخروج من الأزمة» المطروحة من قبل الساسة والمثقّفين والنخب، التي ما إن تطرح لا يبلغ صداها مكان إذاعتها وإعلانها، ولن تجد لها في الشارع صدى، ولو همسًا، وهذا يشي بأنَّ البلد ليس فيه مثقف واحد، مهيوب الجانب ومسموع الرأي، وقد بطلت ذريعة قمع القذافي لفاعلية المثقف وإسكاته، وبدلاً عن أن يبحث المثقف بعد الثورة والخلاص من نظام الديكتاتور، عن دور له يسهم في إنقاض البلد من منحدر الفوضى والضياع، ومغبة الفراغ السياسي، خرج علينا يعلن عن نضاله أيام «الطاغية»، ونصائحه له خلال لقائه به في السر -طبعًا- بالعدل والكف عن الجور والطغيان، وهم ينسون أنَّ كتاباتهم في وصفه بالمفكر، ومخلص البشرية مطبوعة وموزعة في جميع أرجاء الوطن، وهذا جعل المثقف في الشارع هزيلاً، ولا يسمع صوته، بل ليس من الصلف بأن نقول: إنه ليس إلا نكرة، وصوته لا يتجاوز حدود بيته وشلته.

المثقف يعرف أنَّ كلمته ليس لها أي سامع، ويدرك حجم هزاله، إذا قارن نفسه بمثقفي الدول المجاورة على الأقل

إنَّ المثقّف الحقيقي كما يقول إدوارد سعيد: (هو من يرتضي الهامشية في معناها الإيجابي، ويرفض إغراءات السلطة، ويبقى على الدوام مدافعًا عن المقهورين والمظلومين.)، ولو قلبت البصر والبصيرة، في مشهدية الثقافة الليبية، لن تجد أثرًا للمثقفين بتاتًا، وتجدَ أعدادًا منهم يملؤون أعمدة الصحف، ومواقع الإنترنت، برؤاهم وأطروحاتهم، ولكن كل هذا الكم الهائل لا يقع له تأثير على سامع ولا رشد لحائر، من إعلاء وتغلبة لقيم الجمال والخير والحق، وهي كما نعرف، ثالوث المثقف وغاية رسالته، وهو إنْ أكثر من الخروج على شاشات التلفاز، وانتقدَ السلطة، محاولاً توعية الناس بما يدور في أقبية الساسة، وما يُحاك تحت الطاولة، يدرك «النظام» المعرض للنقد، وخلخلة أسسه، الشفاء العاجل والنافع لإسكات صوت هذا المثقف وإطفاء غلوائه، وذلك بإعطائه مهمة سفير بدولة خارجية وحبذا أوروبية، وما حادثة سيادة الدكتور فتحي البعجة عنا ومنا ببعيد، الذي ما عاد يسمع له صوت، ولا تقرأ له تغريدة حول هذا العبث المُطلق والعنف، اللذين جثما على الوطن، ووأدا أحلام الثورة.

إنَّ هذه «الشوفونية» الليبية المتضخمة بلغتْ حد الغلو والتطرف، وهي تحصد الآن جراء الكذب والزيف؛ حصاد أعوام من مجانبة الحقيقة، والموضوعية، وما تعودنا نحن الليبيين على الحس النقدي ومواجهة الذات وتعريتها، وأي محاولة لإلقاء حجر في الماء الآسن، لنْ تجد إلا مقارعة وعنفًا وتبخيسًا لجهود الوعي والنقد الذي من دونه كما يقول سعيد لا تضامن ولا نهضة.

ومع تزايد حدة العنف والمعارك التي صارت تشاهد في وسط المدن والشوارع، ولغة «طاف طاف» وحدها تعلن للجميع. شعبًا وحكومة ونخبة، فشلهم الذريع في وجود وسيلة تعايش سلمي، وكل الظروف تقول بأنَّ المنطق والمفروض ألا يحدث هذا التحدر نحو الهزيمة والفشل.

المثقف نفسه يدرك هذه الهزيمة ويعيها ويعرف أنَّ كلمته ليس لها أي سامع، ويدرك حجم هزاله، إذا قارن نفسه بمثقفي الدول المجاورة على الأقل، وهذا الفشل الذريع على كل المستويات حين يخلو مع نفسه وبتجرد تام، يدرك أن المسؤولية تلحقه، والتهمة تطاله، وهو مطالب الآن بكشف معايبه، والإعداد لخلف من بعده يتجنّب ما وقع فيه هو؛ المتكاسل الانتهازي في تغليب مصلحته على مصلحة وطنه.