Atwasat

الكلام أو الموت !

إبراهيم اغنيوه الإثنين 15 ديسمبر 2014, 01:46 مساء
إبراهيم اغنيوه

ما الذي يُكـون وحدة مجتمع ما؟ وكيف يحدث أنه على الرغم من هذه الوحدة فإننا نعيش فرادى؟ ما الذي نستطيع أن نعطيه للآخر؟ وماذا نتوقع من الآخر أن يعطينا؟

أسئلة يحاول الإجابة عنها كتاب «الكلام أو الموت» (تأليف: مصطفى صفوان، وترجمه عن الإنجليزية: مصطفى حجازي، المُنظَّمة العربية للترجمة، مايو 2008م).

يقول الكاتب في مُقدِّمة الكتاب إنه سأل أستاذه جاك لاكان: هذا الشاب -أعني المريض الذي كنت مهتمًا به حين ذاك- يأتي لرؤيتي مرتين أو ثلاثا أسبوعيًّا، ويروي لي كمية من القصص، ويدفع لي ثم يغادر. ماذا يتعين علي أن أعطيه بالمقابل؟ وكان الجواب على ذلك: لماذا؟ إنك تعطيه صمتك! وفي حوار آخر بين الكاتب وأستاذه، يقول الأستاذ: آه لا يوجد بين شخصين إلا الكلام أو الموت!

إن هذا الكتاب هو نتاج هذا الجواب الذي تلقيته منذ أربعين سنة خلت -يقول الكاتب- ويسارع فيضيف: إن هذا لا يعني أنه أمضى الأربعين سنة في استشارة عرّافة الوحي، وإنه في الواقع يعرض -بشكل مكتوب- الفكرة التي طرحها عليه صديقه كولن مكابي خلال مناقشة للثورة الإيرانية، ومؤداها أن الشعب الإيراني عاد إلى دينه، ودافع عنه وكأنه هويته الراهنة، وعلى الرغم من أن القارئ لن يجد في الكتاب شيئًا عن الثورة الإيرانية، إلا أن الكاتب يأمل أن يكون قد قدَّم تفسيرًا معقولاً لما قد يدفع شعبًا ما إلى تقديس جذور هويته.

في الفصل الأول من الكتاب -عن المعنى والحقيقة في التحليل النفسي- يتحدث الكاتب عن التأويل، ويقول إنه ما ظهر الكبت، كما يردد فرويد، إلا وافتضح أمره في أثر يدل عليه -وتأويل المعاني واحد من الإثار المهمة-. ونلاحظ هنا تركيز الكاتب على تأويل اللغة –المعاني- أكثر من التركيز على اللغة نفسها.

ويؤكد أنَّ نظريته في التحليل ترتكز على مُسلَّمتين تُخضع أولاهما وهي علنية -المعنى للقصد الذاتي- بينما أنَّ الأخرى والتي لفرط بداهتها الظاهرية تصرفنا عن التفكير فيها، فتُتبع الدال بالمدلول -على النقيض من مسلمات فرويد-. ويصل بنا إلى القول إنه يعتمد في تحليله على كل من مفهوم «الجملة تعني» ومفهوم «الاصطلاح»، ويميز ـ مثل بول جرايس ـ بين المعنى الطبيعي الذي يدل على العلاقات السببية -من مثل البثور تعني الإصابة بالحصبة- والمعنى غير الطبيعي الذي يدل على وقائع وحالات من خلال إشارات غير لغوية ـ من مثل ممنوع الوقوف أو ممنوع المرورـ.

ومثل بول جرايس، يلاحظ الكاتب وجود حالات لغوية يجد المتكلم فيها صعوبة في قول ما يريد قوله، كما يلاحظ أنَّ فكرة التعاون في التواصل تؤدي دورًا محوريًّا بمقدار ما تثير التضمين الحواري الذي يتميز عن التضمين المنطقي. فمثلاً لو لاحظ أحدهم أنَّه لم يتبق إلا القليل من الوقود في خزان سيارته، وقيل له -جوابًا عن سؤاله- إنَّ هناك محطة للوقود بالقرب من البقال الموجود في الشارع المجاور، فإن هذا الجواب يتضمن -على صعيد الحوار- أنَّ محطة الوقود مفتوحة وتعمل، وإلا فلن يكون له من معنى أكثر من التأكيد بأنَّ هناك بقالاً في الشارع المجاور. أما فيما يخص مفهوم الاصطلاح فيعرِّفه ديفيد لويس على أنَّه علامة يتعرف من خلالها أحد المتحاورين على مقاصد الآخر.

ويشير الكاتب إلى أنَّ التمييز الذي أجراه أوستن بين ما يسميه الاستعمالات «السوية» أو «الجادة» لجملة ما واستعمالاتها «السقيمة» أو «الطفيلية» هي مجرد دعوة للحدس، ذلك أنَّ واقعة إصدار أمر بصيغة الأمر –مثلاً- لا تشكِّل مؤشرًا على جديته، كما أنه بالإمكان طرح سؤال جاد بصيغة الأمر، لذلك كثيرًا ما يحتاج المتحدث إلى القول إنه «يعني» كذا، و «لا يعني» كذا، لأنَّ الصيغ النحوية لا تؤدي بالضرورة إلى تقريب المعنى لذهن المتلقي، فجملة («ما تبقى» من صالح مرزوق) ـ وهي بالمناسبة عنوان رواية كتبتها قبل سنوات -قد تعني «الذي تبقى» وقد تعني «لم يتبق» وقد تعني «ما الذي تبقى»- طبعًا نحن لا نستطيع استعمال علامات الاستفهام والتعجب وغيرها عندما نتكلم ـ. ويتفق الكاتب مع جاكوبسون في احتجاجه على المحاولات الانقيادية والمصطنعة الهادفة إلى اختزال اللغة إلى مجرد التوكيدات الإثباتية -التوكيد هو معيار القول-، وإلى اعتبار صيغ الطلب -الاستفهامية والأمرة- نوعًا من تحريفات الجمل الإثباتية أو شروح لها.

يلاحظ الكاتب وجود حالات لغوية يجد المتكلم فيها صعوبة في قول ما يريد قوله، كما يلاحظ أنَّ فكرة التعاون في التواصل تؤدي دورًا محوريًّا بمقدار ما تثير التضمين الحواري الذي يتميز عن التضمين المنطقي

وفي الفصل الثاني من الكتاب -الحقيقة بوصفها معيارًا واعتقادًا- يتحدث الكاتب عن كيلسون ونظرته إلى الفرق بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، وعلاقة ذلك بالعقل والأخلاق -في نظر كيلسون وما أخذه عن هيوم-: حيث الأخلاق تمارس تأثيرها على الأفعال والعواطف، يصبح من البداهي أنَّه لا يمكن استنتاجها من العقل، وأنَّه -كما يلاحظ كيلسون- «ليس السلوك الحاضر وإنما السلوك الملزم هو الذي يستهدفه المعيار الذي يملي سلوكًا معينًا»، فالثنائية اللغوية -ما يكون وما يجب أن يكون- تتطابق مع ثنائية الواقع والقيمة ما لا يمكننا من أن نستخلص قيمة ما من الواقع، ولا أن نستخلص واقعًا ما من قيمة. ويستدعي ذلك القول إنه لو كانت اللغة تعبيرًا عن الفكر لأصبح لكل امرئ لغته الخاصة، أما إذا كانت اللغة ظاهرة اجتماعية فمَن سيقرر عندها المعنى المتوافق عليه بين أعضاء المجموعة؟ وكيف ظهرت الأخلاق إلى الوجود -لا وجود لأمر من دون أمر-.

ويشير كيلسون أنَّه من غير الملائم التساؤل حول كيف وُجد النظام الأخلاقي سواء أكان من خلال العادة -القانون العرفي- أم كان بفضل الأنبياء، كما أنَّه يحق لأصحاب نظرية الضمير أن يفسروا صوت الضمير بأنَّه ناتجٌ عن الإيمان.

ويعلن الكاتب في الفصل الثالث -النظام الرمزي (اللغة ـ التأويل في التحليل النفسي)- أنَّه «لا يوجد بين شخصين، سوى الكلام أو الموت، التحية أو الضرب بالحجر». وإذا كان -في البدء كان الكلمة- فإن الناس البدائيين -حسب فرويد- كانوا يعرفون سابقًا الوصية القائلة: «لا تقتل» قبل نزول التشريعات بوقت طويل -قارن ذلك بحي بن يقظان -، ويعرفون كذلك أنَّ كل اعتداء على هذه التعاليم يستجلب عقابًا.

ما الذي يدفع المجتمع إذن إلى إدخال قاعدة -أخلاقية مثلاً- في الحقل الذي تركته الطبيعة من دون تحديد؟ الجواب: وجود مشكلة تثار ويوجب حلها، مثل التقنين الذي تلجأ إليه مجتمعاتنا في أوقات الحروب أو الأزمات، أي يتدخل المجتمع كي يقيم المجتمع.

وفي الفصل الرابع والأخير -من التحالف إلى التنافس- يتحدَّث الكاتب عن التنافس –الواقعي- بين أفراد المجتمع من ناحية، والتحالف والحب -الأخلاقي- من ناحية أخرى؛ حيث تبرز الأطروحة القائلة إنَّ الأخلاقي هو مثقال الواقع. إن علاقتنا مع الآخر –شبيهنا- تكون في أوضح صورها إذا ما راقبنا طفلة تراقب شبيهة لها.

إنَّها تتأملها وكأنها تنظر إلى نفسها في المرآة وقد تضربها، وإذا ما سألناها لماذا ضربتها؟، أجابت: لأنها ضربتني! لم تكن تكذب؛ إذ إنها عاشت الضربة التي سددتها وكأنها ضربة قد تلقتها هي. وكما أنَّه بالإمكان استخدام أصوات اللغة وألفاظها من دون الشك بوجود قواعد النحو، كذلك هو الحال حين تكون الذات قابلة للدلالة على ذاتها، بواسطة ضمير، في غياب التواصل اللغوي.

ويورد الكاتب هنا قصة تلك الفتاة التي كانت تمضي الساعات في حانوت قصاب دون أن تتغلب على دهشتها من واقعة غريبة: إنهم يقطعون لحم بقرة، ولكن أين هي البقرة؟ لماذا لا تصيح؟ سيكون من الخطأ أن نلصق بالفتاة تهمة الخلط بين الكلمة والشيء -كما يفعل اللسانيون والمناطقة-، لأنَّ كلمة «بقرة» كان لها بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الفتاة، المعنى ذاته الذي يتوافق عليه الجميع، إلا أنَّ امتلاكها هذا المعنى، لم يكن يجنبها السؤال الذي يؤرقها: كيف يتسنى أن نتمكن من تقطيع لحم بقرة، بينما لا توجد بقرة؟

إنَّ حال الطبيعة -يقول الكاتب- هي حال حرب، ونستنتج من ذلك ضرورة اللجوء إلى الكلام كي نقيم الحكم الذي يفوض الجميع له السلطة، أو اللجوء إلى العقد الذي يؤمن لكل فرد حقوقه الطبيعية، أو اللجوء كذلك إلى التبادل الذي يكون روح الوجود الاجتماعي. إنَّ الكلام لا يوحدنا من خلال القوانين التي يسنها فقط، بل يبقى في هذه الحال البديل الآخر الذي يقول إن الكلام يوحدنا بواسطة القوانين التي يخضع لها الكلام هو ذاته. إنَّه أما التوافق على بعض المبادئ أو إخضاع حريتنا لطرف يُعطى سلطة إرساء القانون وفرضه بالقوة.

وفي الختام -يقول الكاتب- لا يمكنني أن أتكلم وأن أقتل في الوقت نفسه، نظرًا لما يفترضه الكلام من الصفات، كما لا يمكنني الكلام والإفلات من مرجعية الحقيقة التي يجبرني الكلام عليها، حتى ولو كان كاذبًا، فإما الكلام أو الموت!