Atwasat

المرض الذي يجبُ أن نشفى منه

نجوى وهيبة الأحد 14 ديسمبر 2014, 11:31 صباحا
نجوى وهيبة

يُجمعُ الكل عَلى أنّ الثروة الأساسية في ليبيا هي النفط والصناعات النفطية، إذ يعتمدُ اقتصادُ هذا البلد ومنذ عقٌود في أكثر من 95% على إيرادات بيع النفط.

إذا جلستَ على مائدة أسرة ليبية من طرابلس، من الطبقة الوسطى التي ينتمي لها غالبية الليبيين، ستتذوّق الحليبَ من صناعةً تونسيّة أو مصرية ونادراً ما يكونُ محلياً، وَالْـملاعـق والأوَاني أتـتْ من الصين أو تايوان، والمكرونة إيطالية أو تونسية، والخضرواتُ والفواكهُ تُستجلبُ من تونس، حتى أصبح من المعروف أنّ أي إقفالٍ للمَعبر البري بين البلدين ينعكسُ على سوق الخضروات الطرابلسيّ ويُسبب شُحاً في خضروات معينة وارتفاعاً ملحوظاً في أسعارها.

الشاطئ الطويل الذي تتميز به ليبيا بما يحملهُ من ثروة سمكية متنوعة، وموقع البلد الاستراتيجي على المتوسط، والصحراء الشاسعة التي لا تُستَغلّ في شيء مفيد، وإنتاج نخيل ليبيا من التمور، والمواقع الأثرية المُهمَلة، والصناعات المُتـعلقة بالبناء والبتروكيماويات واللدائن، غالبيةُ الجيد منها يتمُ استيرادُه، وتُنفَقُ عليها الملايين سنويا ومنذُ عقود، وإذا ما تم إنتاجها محليا يكون الإنتاج رديئاً ولا يلقى ثقة المستهلك.

هذه الظاهرةُ التي تعاني منها أغلب الدول الريعية في المنطقة، من البلدان التي تنتجُ البترول ولا تعرف ُمصدراً للدخل سواه ولا تنوِّعُ مصادر اقتصادها تُعرف بظاهرة المرض الهولندي"Dutch disease" وهي التداعيات والآثار التي تصيب أي بلد لا ينوِّع مصادر دخله، كليبيا التي تَعتمدُ على النفط وحده، وتحصدُ من ذلك تضخم الأسعار وضعف قيمة العملة وانعدام التنافسية وضعف القطاع الخاص والبطالة المقنعة وانعدام روح الابتكار والتنافس داخل المجتمع، وأجوراً عالية دون تنمية، إضافة إلى أعراض أخرى تصلُ تداعياتُها لما هو أكبر من مائدتنا. وتتباينُ طرق معالجة هذهِ الأعراض التي إذا ما أصابت بلداً جرّتْهُ إلى دوامة من المضاعفات يصعبُ الشفاء منها.

بداية الحل في ليبيا
في البحث عن حلول للمرض الهولندي، يُجمع الاقتصاديون على ضرورة تنويع مصادر الدخل وخلقِ مصادر ثروةٍ بديلة عن النفط وعن الموارد الناضبة وحوكمة الموارد الطبيعية بشكل مستدام- خاصةً مع حرب أسعار النفط وانخفاضها الحاد حديثاً وكيف أثر على الدول البترولية- فيما يختلف الساسة وأصحاب القرار حول كيفية تنفيذ ذلك؛ بين الانطلاق من سياسات الحكومات وتشريعات البرلمانات في شكل استراتيجيات طويلة الأمد يتمُ التخطيط لها على مدى سنوات، أو الانطلاق من الدساتير وجعلها أقل مرونة وأكثر دقةً في نصُوصها لضمانِ استدامة الموارد وتنوع مصادر الدخل.

الشاطئ الطويل الذي تتميز به ليبيا بما يحملهُ من ثروة سمكية متنوعة، وموقع البلد الاستراتيجي على المتوسط، والصحراء الشاسعة التي لا تُستَغلّ في شيء مفيد، وإنتاج نخيل ليبيا من التمور

وفي مقال صحفي نُـشر في أبريل 2013 للخبير الاقتصادي في معهد NRGI (حوكمة الموارد الطبيعية) أندرو باور*، ورد على لسان الكتاب وبعد لقائه مجموعة من صناع القرار الليبيين في ورشة عملٍ حول إدارة الموارد الطبيعية، أنه وُجدَ أن أول تحدٍ أمام اقتصاد ليبيا هو«الداء الهولندي» ونقصُ التنوع في مصادر التدخل، وانخفاض القدرة التنافسية للصادرات، وأعطى مثلا عن صناعة وتوريد العسل والثروة السمكية كاقتصاد بديل تتوفر له الإمكانات ولكنها لا تزدهر بسبب المناخ الاقتصادي وغلاء الأسعار والأوضاع الأمنية.

وإذا ما تحدثنا عن دولٍ بظروف تُشبهٌ ليبيا، ليس لها سيرة طويلةٌ في الديموقراطيّة والشفافية وفصل السلطات، ولها إرث من انعدام الثقة بين الجمهور وأصحاب القرار، فإن الاتجاه العام يكون دوما أكثر ميلا لتضمين الدستور– الذي لايزال تحت الإنشاء– نظاماً مالياً دقيقاً.

مُقاربات في دساتير أخرى..
وتختلف الطرق التي تُعالج ُ بها الدساتيرُ الأنظمةَ الماليّة بين نظام دقيق ومفصّل وآخر أقل صرامة، وأفادت ورقة بحثية بعنوان «اعتبارات أساسية للدستور وما بعده» صدرت في ديسمبر من العام 2013 عن معهد حوكمة الموارد الطبيعية ومقره في نيويورك، أنه «لم يسبق حتى الآن لأي دولة غنية بالموارد أن ضمّنت دستورها قواعد مالية صارمة، إلا أن دولاً كألمانيا وإسبانيا وسويسرا قد أدخلت تعديلات على الدستور تتعلق بالميزانية المتوازنة، كما ينص الدستور البولندي (المادة 216) على أن الديْن العام في البلاد لا يمكنُ أن يتعدى 60% من إجمالي الناتج المحلي» وهي مقاربة قد تجبرُ الحكومات على اعتماد رؤية طويلة الأمد لتعزيز القواعد الماليّة.

وأمام الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور التي يضعٌ الليبييون آمالهم عليها أمثلةً أخرى، في حال قرروا أخذ زمام المبادرة للقضاء على أعراض «الداء الهولندي» وخروجها من لعنةِ الاعتماد على مصدر دخل وحيد.

مثلاً الدستور في نيجيريا المادة162 ورد فيها: «على الدولة الاستثمار في المجالات ذات الأولويّة خاصة الزراعية والحيوانية والصحة والتعليم وتأسيس صندوق للأجيال القادمة».

وفي دستور الكويت تنص المادة الثانية من مرسوم قانون رقم 106 بشأن احتياطي الأجيال القادمة «بفتح حساب خاص لتكوين احتياطي بديل للثروة النفطية يسمى (احتياطي الأجيال القادمة)»

ومن بين الخيارات أمام الهيئة الدستورية اتباع تجارب دول سابقة، في النص على إنشاء صناديق مالية مستقلّة تدير الأرباح وتضمن تنوع مصادر الدخل، إلا أنّ ذلك يحملُ من وجهة نظر ثانية عيوباً أخرى، وهي التخوفُ من إمكانية حدوث تعارضٍ بين نصوص الدستور والتشريعات المستقبلية والمخاوف من التضييق على المشرِّع مستقبلاً بنصوص دستورية غير مرنة.

وإذا ما كان الليبييون يبنون آمالهم في ازدهار هذه البلاد على النفط الذي تقبع فوقه ليبيا، فإن عليهم إعادة حساباتهم، فقد أثبتت أزمة انخفاض أسعار النفط حالياً ضرورة الحاجة لتنويع مصادر الدخل. فليس على النفط وحدهُ تعيش البلدان، بل ها هي التجاربُ تثبتُ أنه قد يكونُ سبباً أولَّ من أسباب الصراعات والقتال، ويبدو أن الوقت قد حان للبحث عن البدائل الآن ودون تأخير.

 http://www.resourcegovernance.org/news/living-large-libya *