Atwasat

خارطة الطريق وخارطة الحريق

الحبيب الأمين الأربعاء 12 فبراير 2014, 02:44 مساء
الحبيب الأمين

كانت الشمس حارقة وكانت الرمال كحقول الرماد. لليوم الخامس، حاولت الكتيبة التائهة الفكاك من مطاردة اللواء الألماني بصحراء مصر الغربية، لكنها عبثًا تفعل. الوقود وكذلك الطعام قاربا على النفاد وقد لا يكفيان للتوقيت المرسل ببرقية للحاق بباقي القوات الحليفة المنسحبة باتجاه طبرق، لم يتبقَّ أيضًا غير صندوقين من ذخائر المدفعية الخفيفة وذخائر البنادق بالكاد تكفي لمواجهة مباشرة مدتها ساعتان على الأكثر ولا يمكن للميجر جون أن يمدد فترة بقائه بساحة معركة مفتوحة وهناك قوة ألمانية مؤللة وكبيرة تتابعه ليل نهار!

أخيرًا، وصلت طليعة الاستطلاع لتبلِّغ جون بأن القوة المعادية الألمانية ستقفل كماشتها على كتيبته المكونة من 200 جندي لن يصمدوا طويلاً في أي اشتباكات، وفقًا لقواعد وأسلحة الاشتباك المفتوحة على الانتحار! لكن الخبر الأسوأ كان أن قوة إيطالية تتقدم بسرعة من الاتجاه المقابل للقوة الألمانية، مما يجعل الميجور جون والمائة وتسعة وتسعين جنديًّا بين فكي الأفعى الصحراوية. كان الخبر صاعقًا وزاد من سخونة رأس جون وحمرة وجهه الأغبر.

ابتعد عن جنوده وتوجه إلى أعلى كثيب رملي ووقف وحيدًا كصنم من لحم على سدة برج من الرمل المشتعل. أخرج مطرة الماء المعلقة بحزامه وسكبها على رأسه ثم نفض شعره كقط سيامي لامس وبرَه بعضُ الماء البارد.

توقَّف قليلاً ونظر إلى الأفق، ثم استدار بسرعة وبكامل جسده كضبع ليعود جريًا إلى الرتل المهترئ لكتيبته البائسة. التفت جنوده، بحدة، إليه وبعضهم كان مندهشًا وذاهلاً وكأنهم يتوقعون جنونه أو سخطه عليهم.

وصل جون لاهثًا ومبتسمًا أيضًا إلى سيارته وامتشق بندقيته ودق بها غطاءها الأمامي قائلاً: وجدتها.

كانت الفكرة الذهبية قد حطت برأسه الصدئ كإكليل غار، وكان لمعان عينيه يخطف نظرات الجمع الذي كان ينظر إليه كـ"قيصر" وينتظر ما سيقول: "أيها الجنود، نحن مئتان وهم آلاف مؤلفة. إننا محاصَرون، وليس لدينا الوقت للنجاة إلا بمخرج واحد وسط هذه الخارطة لطريق الهروب من قبضة الأعداء القادمين من ثلاثة اتجاهات. الطريق الرابع ضيق، ولكن ينبغي أن نستعمل المكر السياسي على أرض المعركة؛ فقاعدة ضرب الخصوم بالإشاعة ستكسبنا أن نضرب عدونا الأيمن والأيسر بسلاح واحد يضرب الاتجاهين ونحن بينهما، ثم سيظن الألمان والطليان أن قوة أخرى تقصفهما من الجانب الآخر، وعلينا فور إطلاق ما تبقى لنا من ذخائر مدفعية أن نهرب بسرعة ونتركهما يقصفان بعضهما البعض".

كانت هذه خارطة الطريق للكتيبة وخارطة الحريق للقوات المعادية.

باشرت كتيبة الميجور جون قصف الألمان عن اليمين وقصف الطليان على اليسار واشتعلت بين الحليفين النار، واستطاع جون الخروج من كماشة القصف ليقضي الإخوة الحلفاء على بعضهم، وينجح الإنجليز في الخروج من أرض المعركة سالمين وتاركين الدخان والنيران تشتعل بالأفعى الصحراوية. وسجل وصول كتيبة المئتين إلى سيدي البراني يوم الجمعة السابع من الشهر والمغادرة على سفينة الأمان إلى ميناء طبرق الذي وصلته طلائع القوات الحليفة منذ أيام!