Atwasat

الشخصية الليبية وإدارة التنوع الحضاري

صالح أبو الخير السبت 08 فبراير 2014, 08:08 مساء
صالح أبو الخير

يناقش هذا المقال الهوية الوطنية في ليبيا وسبل إبرازها وتعزيزها. الشخصية الوطنية، أو الهوية الوطنية، مفهوم يثير الالتباس لكونه من أكثر المفاهيم إثارة للخلاف بين المتحاورين والكتاب والفرقاء السياسيين، وتشتد حدة هذا الخلاف في أزمنة الأزمة؛ حيث من الممكن أن يستخدم هذا المفهوم كشعار سياسي ذي بعد استراتيجي لهذا الطرف أو ذاك، أو أن يصاغ وفقًا لرؤية أيديولوجية لجهة ما، وهذا سيكون علي حساب البعدين الموضوعي والمعرفي للمفهوم ويقلل من قيمته الفكرية وفاعليته على أرض الواقع ويجعل منه دافعًا إلى الفرقة والتناحر، بدلاً من أن يكون رافدًا للوحدة الوطنية والتعاضد.

ومن هنا يجدر بنا تحديد مفهوم الهوية الوطنية، أو الشخصية الوطنية. فالفرد يوجد في مجتمع ما أولاً، ثم يكتسب هويته، أو شخصيته الوطنية، لاحقًا، من خلال تواصله وتعايشه مع المجتمع الذي وجد فيه. وهذا يعني أن الهوية ليست معطى تاريخيًا، بل هي ملامح اجتماعية مكتسبة قابلة للتغيير والمراجعة والتقويم لجعلها أكثر فاعلية في توحيد المجتمع وتحديد من ينتسبون إليه وتمييزهم عن سواهم.

ولهذا يجب أن نسلّم أن الهوية الوطنية، أو الشخصية الوطنية، هي، في جوهرها، متنوعة وتقبل الاختلاف. وهي تعبر عن مجموعة من الأفراد، أو القبائل، أو الشعوب التي جمعتها رقعة جغرافية واحدة ومصير مشترك وثقافة شعبية وذاكرة تاريخية مشتركة، ومن هنا يمكننا تعريف الهوية، أو الشخصية الوطنية، بأنها مجموعة من السمات والخصائص التي تميز مجتمعاً ما أو وطنًا معينًا عن غيره من المجتمعات يعتز بها وتشكل جوهر وجوده وشخصيته المتميزة.

قبل ثورات الربيع العربي كانت الهوية، أو الشخصية الوطنية، في أغلب البلدان العربية، تختصر في أنها عربية ترتكز علي العروبة، متخذة منها منطلقًا في تحديد الهوية الوطنية للشعوب التي تعيش فيما يسمى "الوطن العربي". وهذه الهوية ارتبطت بتطورات سياسية واجتماعية، بدأت إرهاصاتها الأولى في نهايات القرن التاسع عشر، وكان هدفها، آنذاك، هو مقاومة الاستعمار ونيل الحرية والاستقلال، وكانت أيضًا رد فعل ضد مشروع أممي آخر هو مشروع الجامعة الإسلامية التي أطلقها جمال الدين الأفغاني في ذلك الوقت.

عاشت هذه الفكرة (الهوية) عصرها الذهبي في عصور الاستقلالات العربية وتنامي الوعي القومي العربي، واكتسبت هذه الأيديولوجيا زخمًا كبيراً مع اشتعال المعركة ضد العدو الإسرائيلي، فطغت الشخصية العربية لشعوب المنطقة على كل الشخصيات والهويات الوطنية لهذه الشعوب.

والحقيقة أن هذه الهوية القومية كانت معرفة بواقع سياسي مجزءٍ، لكون الأقطار العربية كانت مقسمة إلى أقطار، وأيضًا كانت، هذه الهوية، معلقة علي شروط مستقبلية غير متحققة على أرض الواقع، مثل تحول هذه الكيانات إلى التعاون الحقيقي البناء والانتقال إلى شكل من أشكال التوحيد، كما أن هذه الهوية لا أساس تاريخيًا لها. فلم يسبق أن تكونت دولة من الدول الموصوفة بدول الخلافة على أساس عرقي عربي محض، ولهذا عاشت المنطقة العربية- وليبيا ليست استثناء منها- طيلة العقود الماضية في حالة من الهوية المزورة المفروضة بآلة عسكرية ذات أيديولوجية قومية ذهبت إلى تنميط المجتمع الليبي وإلغاء تنوعه واختلافه.

لقد كان النظام المنهار يدعي أن كل الليبيين ينتسبون إلى أمة واحدة، هي الأمة العربية، ويتكلمون لغة واحدة، هي اللغة العربية، ويدينون بدين واحد، هو الإسلام وفقًا للمذهب المالكي، وقد استخدم النظام المنهار مؤسساته المختلفة للترويج لفكرة أن الشعب الليبي شعب متجانس بلا إثنيات عرقية ولا مذاهب فقهية ولا تيارات دينية.

كشف القناع عن الشخصية الليبية
بعد ثورات الربيع العربي وما أنتجته حالة الثورة في ليبيا من حريات لا حدود لها، انكشف القناع عن الوجه الحقيقي للشخصية الليبية، وهي أنها بلد يعج بالإثنيات والمذاهب والتيارات الفكرية، فعرف الليبيون أنهم ليسوا أمة واحدة، فإلى جانب العرب هناك الأمازيغ والطوارق والتبو والمور والأوروبيون والمالطيون والأتراك والكراغلة والكريتليون والزنوج والجرامنة وغيرهم. وعلى الصعيد الفكري برزت السلفية بكل أشكالها كالسلفية العلمية والجهادية والسليمة والعنفية، وبرزت حركات الإسلام السياسي كالإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي وجماعة التبليغ، إلى الحركات الصوفية التي وجدت نفسها مستهدفة ودمر لها مئات الأضرحة والزاويا، إلى يهود ليبيين يطالبون بالعودة إلى وطنهم الذي ينتمون إليه، كما يدعون.

لقد أفرزت التجربة الانتقالية نخبًا جديدة محدودة الخيال، تدير الدولة بارتجال ومن دون معرفة بالتنوع الحضاري للمجتمع الليبي وتجاهلت، هذه النخبة السياسية، الاستشارات العلمية، مما جعل الدولة في حالة من الاضطراب الأمني الذي يشبه الحرب الأهلية في مناطق مثل الكفرة وسبها ومرزق وجبل نفوسة والعزيزية والزاوية ومصراتة وبني وليد، تبعتها حالة أخرى من التخبط الإداري والمركزية وضعف السلطة السياسية وهشاشتها، واستسهال اللجوء إلى طرح قضايا التعصب الديني والطائفي والتعبئة المضادة، كبديل لمناقشة البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما أن حالة "التطييف" التي يتسم بها المشهد السياسي الراهن قد تحول الدولة من دولة المواطنة إلى دولة طوائف، خصوصًا أن الحالة الليبية توفر البيئة المناسبة للعنف والاقتتال، سواء من سياسات الدولة أو من الأطراف السياسية والاجتماعية.

أمام كل ذلك، أليس من الواجب علينا أن نبحث عن الشخصية الليبية الوطنية التي تعترف بتنوعها وتعتز بمكوناتها وموروثها التاريخيّ، خصوصًا أن مقومات بناء هذه الشخصية كامنة في وجدان هذا الشعب من رقعة جغرافية يعيش عليها وذاكرة شعبية وتاريخ مشترك؟

الشخصية الليبية وملامحها
تنبع أهمية البحث عن الشخصية الليبية من محاولة إرساء إطار نظري ومفاهيمي يسمح للسلطة السياسية بفهم المجتمع وتفسيره وفقًا لطبيعته وحركته. إن البحث عن الشخصية الليبية يتطلب، أولاً، اكتشاف عناصر الذات الليبية وآفاق تفاعلها الاجتماعي والسياسي عن طريق تعزيز تماسك المجتمع وتفعيل التنمية وتخطي السلوكيات الإثنية والدينية والعشائرية لإعادة الاعتبار للدولة الحديثة.

علي الرغم من تسليمنا بأن هذه الشخصية الليبية تمتاز بالتنوع الحضاري، فكل مكون من هذه المكونات التي ذكرناها له خصوصيته الحضارية واللغوية والدينية العقائدية، وله رقعته الجغرافية التاريخية، كما لكل مكون طريقته الخاصة في التفاعل الاجتماعي والانفتاح أو الانغلاق والتقوقع. ولهذا نجد الكثير من المكونات الاجتماعية والجماعات الفكرية استطاعت أن تتفاعل مع غيرها وتتعايش، خصوصًا في المدن الكبرى، وفي المقابل حافظت مكونات أخرى على حالة الانعزال والانغلاق حول نفسها ضد التفاعل مع المكونات المجاورة لها.

إن الشخصية الليبية، التي نطمح إليها، تكمن في البحث عن القواسم المشتركة بين الليبيين وقولبتها في شخصية وطنية واحدة تعبر عن هوية الوطن المسمى (ليبيا)، بهدف تمتين الروابط الوطنية والثقافية وزيادة اللحمة والحس بالهوية الواحدة والمصير المشترك، مع الاعتراف بالتنوع واحترام حقوق المكونات الثقافية من تاريخ ولغة وتقاليد وموروثات. وهذا الهدف لن يتحقق إلا بإدارة رشيدة للتنوع الحضاري.

ماهية إدارة التنوع الحضاري
المقصود بإدارة التنوع الحضاري هو ما تطبقه الدولة ومؤسساتها من سياسات عامة وترتيبات دستورية وقانونية، وغيرها من الإجراءات، التي ترمي إلى تحقيق المساواة بين المواطنين. ومن مظاهر هذه الإدارة مايلي:

أولاً، الإطار الأدبي لإدارة التنوع ينطلق من مسؤولية الحكم والنظام السياسي بما يستتبعه ذلك من ضرورة وجود أبعاد دستورية وقانونية تنظم العلاقات داخل المجتمع، إضافة إلى مجموعة من السياسات العامة التي تحافظ على السلم الأهلي وعلي إيجابية العلاقة في إطار دولة المواطنة.

ثانيًا، الاعتراف باللغات الوطنية وإصدار قوانين خاصة بها ولجان لتطوير هذه اللغات والنهوض بها.

ثالثًا، إلغاء المركزية: فالدولة المركزية لها سمة وهي أنها ليست مركزية القرار السياسي فقط بل إنها لا تعترف إلا بهوية واحدة، فينبغي اعتماد لا مركزية إدارية موسعة بما يسمح للمناطق والوحدات الإدارية بإدارة شؤونها الحياتية والتنموية والخدماتية على المستوى المحلي، دون المساس بالمركزية السياسية.

رابعًا، المساواة في القانون وفي صياغته بحيث لا يكون هناك أي بند دستوري أو قانوني يحظر على المواطنين من الجماعات الثقافية والفكرية ما يسمح لغيرهم، وهو شرط لن يكتمل إلا بمراعاة حالة التنوع القومي السياسية والاجتماعية والثقافية.

خامسًا، قيام السلطة السياسية بصناعة الوعي القومي السليم، ليس فقط على مستوى الخطاب الإعلامي، بل علي مستوى الممارسات من إتاحة الخدمات الصحية والتعليم وفرص الرقي الاجتماعي للمواطنين وتحقيق الأمن وعدم قمعهم. إن صناعة هذا الوعي القومي هو ما يضمن تلاحم النسيج الاجتماعي في أي كيان لدولة حديثة.

سادسًا، إنشاء مجلس شيوخ يحمي مصالح المكونات والأقاليم ويدير التعددية وما يتعلق بها من حريات أساسية.

سابعًا، سياسات الدولة يجب أن تنصب على مواجهة التمييز عبر وجود مؤسسات تمثيلية تعبر بشكل حقيقي عن تنوع المجتمع وبيروقراطية محايدة ورشيدة تدير تنوعاته الجهوية والسياسية والدينية.

ثامنًا، إدارة التنوع لا تكون فقط بالقوانين بل هناك، أيضًا، الثقافة الوطنية التي يجب تنميتها وتطويعها لخدمة التنوع الإيجابي وتعزيز هذه الثقافة من قبل مؤسسات الدولة الحديثة.

تاسعًا، إن التعايش الاجتماعي والحكم الرشيد لا يكفيان، وحدهما، من أجل إدارة التنوع. فقد تتعسف السلطة السياسية وقد ينحو المجتمع نحو التنميط، وهنا يأتي دور مؤسسات المجتمع المدني التي يجب أن تلعب دوراً حاشداً وضاغطًا وموعيًا بقضايا التنوع وإدارته الرشيدة، والضغط هنا لا يجب أن يكون على السلطة الحاكمة أو على الجهاز الإداري بل يكون لأسفل، بالعمل مع المجتمع نفسه وعلى ثقافته المجتمعية الخاصة بمسائل التسامح والتنوع والتعايش.

وختامًا نقول: إن إدارة التنوع يجب أن تتم "دسترتها" حتى يتم ضمان حقوق كل أطياف المجتمع وحاجاتهم، على أن يراعى أن إدارة التنوع هذه لا يحكم عليها دون مرور فترة زمنية طويلة، فهي ليست جامدة كالنصوص الدستورية، بل هي محصلة لسلسلة من الإجراءات والسياسات العامة والقرارات الإدارية، ومن الممارسات والتطبيقات وتبنى مفاعيلها من تراكم التجارب. وأختم بهذا القول لأحد المفكرين: "إن ما يجمع أعداداً كبيرة من البشر في مكان جغرافي معين ويحول هذا المكان إلى مفهوم الوطن ليس اللغة أو الثقافة أو الدين، ولكن مجموعة من المفاهيم والمبادىء السياسية التي تنظم العلاقة بين القوى المختلفة، القاطنة في الإقليم، وكذلك بينها وبين الدولة".