Atwasat

رسالة من لندن

جمعة بوكليب الإثنين 03 فبراير 2014, 02:19 مساء
جمعة بوكليب

علاقتي بأعياد الميلاد المجيد يمكن رصدها، بسهولة، عبر رسم خط بياني يتسم بالانحناء هبوطًا وهبوطًا ثم يبدأ في التصاعد بشكل لافت!

قبل أن أنتقل للإقامة في لندن، في بداية الألفية الثالثة، سادت اللامبالاة مسار العلاقة؛ بمعنى أن أعياد الميلاد كانت تجيء وتمضي دون أن أوليها أي اهتمام. في السنوات اللاحقة، انتقلت درجة العلاقة بيننا إلى حد الخصومة؛ بسبب أنني، طوال فترات أعياد الميلاد المجيد، كنتُ أغلي غيظًا وحنقًا وتوترًا وكأني جالس على "كانون نار"؛ لأني كنت مجبرًا على مسايرة زوجتي الإنجليزية وأفراد عائلتها في محاولة غير موفقة لإرضائهم على حساب نفسي.

وحين حدث ما حدث من تحولات مؤلمة في حياتي الأسرية، ووجدتني أقف وحيدًا من جديد في المربع الأول كحيوان جريح يلعق نزيف جراحه، محاولاً، بألم، جبر انكسارات قلبي وعمري، هائمًا على وجهي في شوارع لندن، مغامرًا بإعادة ترميم ما تصدع من نهارات حياتي، وعازمًا على قيادة دفة سفينة روحي الدائخة وسط أمواج بحار الحياة، والوصول بها إلى بر الأمان مهما كانت التكلفة، بدأ الخط البياني في العلاقة بيني وبين أعياد الميلاد في التحرك صاعدًا، بحذر ملحوظ، نحو الأعلى، وببطء غير مكروه.

كانت لندن مدينة كبيرة وعظيمة، من سحر وأنوثة وعلم وفن وثقافة وسياسة وصعلكة وعربدة ومال وفقر وبرد وضباب ونهر من الشهوات. وكنتُ غريبًا، وحيدًا، قادمًا من مدينة أخرى صغيرة، ومركونة كنقطة في خارطة كبيرة شديدة التفاصيل، في آخر الساحل الجنوبي الشرقي المطل على البحر، وكان الوقت مسافة طويلة أمامي يتوجب عليَّ قطعها من أجل الوصول إلى نقطة تتيح لي الاقتراب من مركز نبض لندن اليومي سريع الدقات جدًّا، وتحولات تاريخها الذي لا يخلو من دم وأمل، وتتيح لها، وهي اللامبالية، التعرف على شجر أحزاني، ويمكنها بشيء من الود، إن شاءت، أن تتشمم عطر ورد طموحي، وقد تتفهم طبيعة ما يحدث من انقسامات في داخلي، وأنا أحاول، جاهدًا، مد جسر من الود يغلق هُوَّة المسافة بينها وبيني، وبيننا معًا وبين مدينة أخرى، بعيدة، ما زالت تخفي في أزقتها وحواريها وحاراتها القديمة ما تركتُ فيها، قسرًا، من طفولة وذكريات. وخلال مسيرتي الزمنية المضنية بدأت لندن تتفتَّح في قلبي كوردة، وبدأت أتفتح في شوارعها كوعد، وبدأت العلاقة بيننا تتخلَّق بنحو جديد وممتع وسريع الإيقاع كجريان مياه نهر التيمز في الشتاءات المطيرة. في تلك النقطة من المسافة بدأت علاقتي بأعياد الميلاد المجيد تصفو من غيوم اللامبالاة ونذر الخصومة، وتنحو نحو التفاهم أولاً، ثم حدث ما لم يكن في الحسبان، أعني أنني صرت، أخيرًا، أتوق لقدوم عيد الميلاد المجيد!

على عكس غيرها من المدن البريطانية التي عشتُ فيها، اكتشفت أن أعياد الميلاد المجيد تمنح لندن فرصة سنوية لتجديد شبابها، وتفتح أمامها أبواب البهجة بشكل غير معهود في بقية أيام العام، وتجعلها تبدو كعروس في ليلة زفافها؛ حيث تستحيل طرقاتها وشوارعها ومقاهيها ومطاعمها وحاناتها ومسارحها ونواديها إلى مساحات مضيئة بالفرح والغبطة حدَّ الثمالة.

عرفت، أيضًا، أن فترة أعياد الميلاد هي الفترة التي يتحول فيها السياسيون البريطانيون إلى "بابا نويلات" يوزعون الضحكات ويدعون للسلام والتآخي، والأهم من ذلك أنهم يختفون، بشكل ملحوظ، وليس عن طيب خاطر أيضًا، مع ضحكاتهم اللزجة من شاشات التلفزيونات والصفحات الأولى للجرائد والمجلات. هذه اللعبة السنوية المقيتة يدركها الصحفيون وأهل الإعلام ويعرفون أنهم مجبَرون على لعبها، عملاً بالمثل الذي يقول: "تبّع الكذاب لفم الباب"؛ ولذلك يضطرون إلى ملء الفراغات القليلة التي كان يشغلها السياسيون بمواضيع ومواد جديدة، معظمها يتعلق بفرحة الناس بعيد الميلاد المجيد، والعجائب والغرائب التي تعج بها الحياة اليومية.

في هذا العام، وتحديدًا يوم السبت 21 ديسمبر 2013، قرأت في صحيفة "جارديان" تقريرًا من إعداد ديفيد ما كي، يسلط الضوء على الذكرى المئوية الأولى لولادة "الكلمات المتقاطعة" على يد مواطن إنجليزي كان يعيش في مدينة ليفربول، ويعمل مزارعًا للبصل، اسمه آرثر وين، قرَّر، ذات يوم، الهجرة من ليفربول متوجهًا نحو نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية، وترك زراعة البصل من أجل أن يحقق حلم حياته ويعمل في الصحافة. وقد تحقق له ذلك حين تمكن من تأكيد ذاته في العمل الصحفي بأميركا حتى وصل إلى منصب رئيس تحرير صحيفة "ذا نيويورك وورلد". وأثناء عمله، وتحديدا يوم 21 ديسمبر 1913، تبقت أمامه مسافة فارغة من صفحات الجريدة في حاجة إلى مادة لكي تغلق إدارة تحرير الجريدة صفحاتها، وترسل بالعدد الجاهز إلى المطبعة.

ونظرًا لعدم توافر مادة كافية لملء الفراغ، اضطر السيد آرثر للجلوس إلى مكتبه، وبدأ في رسم المربعات، أفقيًّا وعموديًّا، وأطلق على اختراعه اسم "تقاطع الكلمات"، ثم تغيَّر الاسم فيما بعدُ ليصير "الكلمات المتقاطعة".

الحقيقة التي لا تقبل شكًّا هي أنني، قبل قراءتي التقرير، لم أكن أعلم أن عمر الكلمات المتقاطعة لا يتجاوز المائة عام، كما لم أكن أعرف أنها من اختراع شخص واحد ومحدد. أضف إلى ذلك أن علاقتي بالكلمات المتقاطعة تسبق زمنيًّا علاقتي بأعياد الميلاد المجيد، لكنهما، في كثير من النواحي، تتشابهان إلى حدٍّ كبير.

يمكن القول، تاريخيًّا: إن علاقة تعارفي بالكلمات المتقاطعة بدأت حينما كنت صبيًّا وتلميذًا في آخر المرحلة الابتدائية في المحروسة طرابلس الغرب، في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، ثم تطورت خلال السنوات التالية، وبالذات في المرحلة الإعدادية؛ حيث بدأت تتأكد أواصر الود والمحبة بيني وبين قراءة الصحف والمجلات والقصص والروايات. كانت الكلمات المتقاطعة تصادفني كثيرًا في مجلات الأطفال، خاصة مجلتي "سمير" و"ميكي"، وكذلك في بعض الصحف التي كانت تصدر في طرابلس، إلا أنني لم أُعِرها اهتمامًا؛ لأنني لم أكن أعرف قواعد اللعبة ونظمها وكيفية التعامل معها، ولم أجد في أقراني من يدلني عليها؛ لذلك تجاهلتها وعاملتها كما عاملت أعياد الميلاد، أقصد بلامبالاة قاسية.

ولم تتوطد العلاقة بيننا إلا بعد أن أُجبَرتُ على تجرع مرارة غربتي الأولى، بدخولي في تجربة السجن الطويلة والمؤلمة. وفي السجن الذي ابتلينا به في ليبيا، لم يكن أمام السجين السياسي سوى تزجية الوقت في التصالح، قسريًّا، مع براري الفراغ الموحشة والمقفرة المحيطة به؛ لأن النظام الفاشي الذي كان سائدًا حرم السجناء السياسيين حتى من حق تصفح جريدة محلية هزيلة تصدرها مؤسساته الإعلامية، وخاضعة لأجهزة رقابته الصارمة وتُطبع في مطابعه! وكان علينا أن نقدح أزندة أفكارنا ونبدع وسائل تعيننا على التهام وحش الفراغ الهائل قبل أن يلتهمنا؛ لذلك جاء الشطرنج أولاً، وعبره تمكنَّا من التعلق بالأحصنة والأفيال والقلاع والملوك والوزراء والبيادق لانتشال أنفسنا من بركة الفراغ الآسنة. ونجحنا في ذلك حتى صار الواحد منّا يذهب إلى النوم وهو يحلم بالأحصنة تطير بأجنحة وبالأفيال وهي تتصادم مع القلاع. بدأنا في صنع رقع وقطع الشطرنج من الورق، ثم تطوَّر الأمر إلى صنعها من العجين الذي كنا نحصل عليه من قطع الخبز الذي كان يقدَّم لنا مع وجبة الإفطار، ثم، هللويا، تطوَّر الأمر مع تقادم الأسابيع والشهور إلى صنعها من الخشب.

جاء وقتٌ ازدادت فيه شراسة النظام الفاشي إلى درجة الحمق. وتقرر، عام 1984، نقل السجناء السياسيين من سجن طرابلس المركزي "الحصان الأسود" إلى سجن "أبوسليم" سيئ السمعة. وهناك، ازداد ضيق السجن حتى صار أضيق من خرم إبرة صدئة، وتحولت الزنازين إلى صناديق مغلقة عفنة الرائحة، وغابت البيادق والأحصنة والأفيال، وبرز وحش الفراغ من جديد، ولم يكن أمام السجناء من مفر سوى قبول التحدي وإبداع لعبة جديدة، فولدت الكلمات المتقاطعة. كانت كل زنزانة تعد الكلمات المتقاطعة ليتم تسريبها إلى غيرها من الزنازين لحلّها، وأذكر أنني، في تلك الفترة، بدأت أتحسس طريقي لوضع حجر الأساس لعلاقة جديدة ومختلفة بالكلمات المتقاطعة، ثم سرعان ما تحولت العلاقة إلى نوع من العشق أنقذني من الغرق في بركة الفراغ والتوحش الآسن، وظللتُ وفيًّا لتلك العلاقة الجميلة.

حين خرجت من السجن، عام 1988، حزمت أمتعتي وقررت الهجرة إلى بريطانيا. وفي المنفى، كان لزامًا عليَّ، بسبب ظروف الحياة الجديدة ومتطلباتها، أن أتنازل، عن سبق إصرار وترصد، عن أشياء شخصية كثيرة حملتها معي من حياتي السابقة، ومن ضمنها علاقتي الطيبة والودودة مع الكلمات المتقاطعة. وأعترف أنني مع تقادم الوقت ما زلتُ أشعر بغبطة وفرح طفولي كلما فتحت صفحات جريدة أو مجلة وقابلتني فيها مربعات الكلمات المتقاطعة.

الواقع العربي عامة، وفي بلدان ثورات الربيع العربي خاصة، على مستوى النخب –قديمها وجديدها- وعلى مستوى القاعدة، يشبه، إلى حدٍّ كبير جدًّا، لعبة الكلمات المتقاطعة! حيث يتشابك الواقع بضراوة كما تتشابك مربعات الكلمات المتقاطعة، أفقيًّا وعموديًّا، في صفحات المجلات المتخصصة في إبداع ألغاز الكلمات المتقاطعة بمختلف الأشكال والأحجام والأنواع واللغات. الفرق بين الاثنين هو أن الكلمات المتقاطعة تسلية فكرية ممتعة لتزجية أوقات الفراغ، في حين أن الواقع العربي الحالي بخطوط ومربعات تقاطعاته العمودية والأفقية المربكة لا مكان فيه إلا لخوف من مستقبل ندعو الله ألا يكون أشد غموضًا، وإرباكًا ودموية وتعصبًا مما قاسيناه وعانيناه خلال العقود الماضية!
وحتى نلتقي مجددًا:
أفقي - 1/ باء مختنقة بين ياءين يحدهما لام عن يمين وألف ممدودة عن يسار كنصلين في كبد سماء، مثلنا، حائرة.
عمودي - 1/ وطن كان حلمًا ثم كاد يكون حقيقة، لولا أن تكالب عليه المتكالبون حتى صار تجسيدًا للمثل الشعبي الذي يقول: "قليل البخت تنبح عليه كلاب السوق".