Atwasat

الفيدراليّة.. بإعلان سياسي أم من دونه؟

بوابة الوسط - القاهرة الأحد 02 فبراير 2014, 11:49 صباحا

عندما يتم انتقاد إعلان إقليم برقة الفيدرالي من جانب واحد -وهو الإعلان الذي تم حتى الآن ثلاث مرات، ولم يعد ينقص إلا إعلانه مرة رابعة من ميدان الجزائر كما يقول أحد الأصدقاء- يسارع أصحاب الإعلان وأنصارهم ممن يعون حقيقة الأمر، وممن لا يعون، بالقول: "وماذا عن مصراتة؟ إنها فيدرالية فعلية من دون إعلان!". والواقع أن هذا هو مربط الفرس.

تحظى أجواء العملية المعقدة لبناء الدولة -أي دولة- وفي ليبيا بالذات، بإمدادات لا تنتهي من التعقيدات، من المواطنين الغاضبين و"المحروقة بصلتهم"، كما يُقال، بفعل نيران السلاح المنتشر لدى الجميع تقريبًا. السلاح يخلق بطبيعته حالة وهمية من القوة والجبروت، تلغي تمامًا فكرة إدارة الفكرة في الرأس قبل الإقدام على تنفيذها، ويصبح الاندفاع نحو إشهاره للقيام بعمل ما يكاد يسبق حتى التعبير الأولي عنه، في مثل هذه الأجواء التي جاءت أيضًا نتيجة "محلية" الثورة الليبية التي لم تحدث في ليبيا كلها دفعة واحدة، يصبح الاستقلال الجزئي عن الدولة المركزية في تنظيم المدن أمرًا طبيعيًّا، خاصة إذا كانت الدولة المركزية التي تمثل الوطن تمثيلاً معنويًّا، أكثر منه فعليًّا. في ظل هذه الأجواء لا تستطيع القيام بجميع الأعمال وفي جميع المدن وطوال الوقت.

مصراتة، كغيرها من المدن، وجدت نفسها في أتون الثورة، معتمدة في البداية قبل أن يأتيها الدعم من الشرق على جهودها المحلية وأبنائها الموجودين داخلها، الذين أجبرتهم التطورات على خوض حرب شرسة، قدموا فيها ملاحم بطولية سطرها التاريخ، ثم طورت من هذا الجهد المحلي الجماعي في تنظيم أمور الحياة فيها، دون انتظار دولة آنذاك لم تتشكل بعد.

والبلاد بحكم طبيعتها المزدوجة، وعلاقات القبلية العشائرية، والفكر التجاري بها، استطاعت أن تلملم متناثرات المشهد الحياتي، وأعطت أهمية للقرار المحلي، خصوصًا مع ما يتميز به التاجر من وفرة للسيولة المالية وحنكة عقلية في الاستثمار الآجل. عكس غيرها من المدن في الغرب والجنوب، التي وجدت نفسها في العراء تنتظر مساعدات المجلس الوطني الانتقالي.

التطورات اللاحقة والصراعات الجهوية لـ"مصراتة" مع جيرانها جعلتها أكثر تماسكًا داخليًّا، ما فرض على البعض النظر إليها على أنها إقليم فيدرالي "بالسكّيتي"! الوضع في برقة تختلف تعقيداته عن مصراتة؛ فهو تجمع قبلي يشمل مدنًا كـ"بنغازي وطبرق ودرنة" وغيرها، وحتى النشاط التجاري فيها -الذي يعطي الجانب القبلي والعشائري بعدًا أكثر تقدمًا- كان بالأساس مصراتيًّا، خصوصًا في بنغازي، كما أن المنطقة الشرقية كانت موطن السلطة "المركزية" الجديدة آنذاك، وبالتالي لم تكن تنتظر مساعدة من الخارج، وهذا –جزئيًّا- ما جعل سكان بنغازي يغضبون من نقل السلطة إلى طرابلس بعد التحرير؛ لأن ذلك غير وضعهم من المركزية إلى "الأطراف". وهو في تقديري، ما أعدّ التربة لنمو الطرح الفيدرالي مبكرًا منذ أبريل 2011.

المشكلة الرئيسية إذًا هي المركزية، وبالذات حين تتفتت هذه المركزية لصالح مشروع مركزية جديدة. وبالعودة إلى النقطة الرئيسية، وهي الإعلان السياسي لإقليم برقة ومقارنته مع مصراتة -باعتبارها أقل المدن معاناة لمشاكل المركزية، وتكاد تقتطف من الدولة جزءًا من صلاحياتها- يصبح الحديث عن دلالة الإعلان السياسي غاية في الأهمية؛ فهو يعبر عن حالة استقلالية، سياسيًّا وليس خدميًّا، على الرغم من تستره بهذا الغطاء. ويزيد من تعقيدات مهمة بناء الدولة، ويفتح الباب للنقاش في شكل الدولة لا في أحقية مواطنيها بخدماتها على قدم المساواة.

قيادة إقليم برقة -سواء المعتدل منها، الذي قرر التنحي أمام صولة السلاح الفيدرالي، أو المتطرف، الذي قرر أن يفرض رؤيته السياسية على سكان الإقليم، وعلى بقية الأطراف التي يزعم أنه يريد الاتحاد معها- لا تدرك خطورة وأبعاد الإعلان السياسي في ظرف انتقالي كهذا، ولا يدرك الهائجون بأسلحتهم أنهم يدمرون الدولة التي يريدون اقتسامها، ولا يدركون أخيرا الفرق بين مصراتة وبرقة. مصراتة في أسوأ الأحوال اقتطعت جزءًا من صلاحيات الدولة، ربما بسبب غيابها، وهو الأمر الذي يمكن إصلاحه وإعادته إلى السبيل القويم، عندما تكون الدولة قادرة على القيام بهذا العمل، وهذه مسألة إجرائية إدارية تنظيمية في إطار الحكم المحلي والصلاحيات السيادية للدولة. أما الإعلان السياسي، من طرف واحد، في وقت يتسم بحساسية شديدة، فلكم أن تقدروا التداعيات المحلية والإقليمية والدولية لهذا القرار عديم الحكمة، على أقل تقدير!

تمنيت لو أن فيدراليي برقة لم يستهوِهم الخطاب السياسي، وقاموا، بدلاً من ذلك، بما يسمونه فيدرالية "على السكّيتي"، حينذاك يكونون قد خدموا أهلهم في برقة، ولم يخلقوا صداعًا لا ينتهي لبقية سكان الوطن.