Atwasat

ترحال: التضحية و شرعيّة الحكم

محمد الجويلي السبت 10 مايو 2014, 05:01 مساء
محمد الجويلي

لم تُثر قضيّة التضحية بالنفس في مواجهة الأنظمة الديكتاتوريّة، سواء بدخول السجن أو بالتعرّض لشتّى أنواع الاضطهاد والتنكيل، أو بالعيش في المنفى اضطرارًا، وليس اختيارًا، وعلاقة كلّ ذلك بشرعيّة الحكم على أنقاض الأنظمة البائدة كما أثيرت في دول الثورات العربيّة في السنوات الأخيرة التي عرفت في أغلبها بعد سقوط الأنظمة البائدة أحزابًا وأفرادًا وجدوا أنفسهم يتربّعون على دفّة السلطة التي وصلوا إليها عن طريق الانتخابات، وهم الذين لم يمض وقت طويل على خروجهم من الأقبية والسجون أو على العودة إلى دولهم بعد سنوات قضّوها في المنافي والأصقاع البعيدة.

وفي غياب رؤية سياسيّة واضحة ومشروع متكامل للبناء والتعمير والتنمية والنهوض بالإنسان مع التعثّر الذي رافق تجربة هؤلاء في السلطة، نتيجة عدم خبرة غالبيتهم بالتسيير الإداري ومعرفتهم بدواليب الحكم، لم يجد هؤلاء أفضل من مزيد الاتّكاء على شرعية تضحيتهم في دول الاستبداد الغابرة، بل المبالغة في التذكير بها كلّما اشتدّت عليهم وطأة الحكم وثقل وزره على أكتافهم وازدادت مطالب مواطنيهم في التمتّع بحياة كريمة وآمنة لطالما حلموا بها ولكنّهم يرونها تتبخّر أمامهم ويزداد حالهم سوءًا على سوء، بل تتدهور حياتهم أكثر معيشيًّا وأمنيًّا عمّا كانت عليه في أزمنة العسف والاستبداد، وهي حالة لا يجد لها المواطن العادي تفسيرًا كما يجدها لها المثقّف الخبير بتاريخ الشعوب وثوراتها وانكساراتها، والذي يعي تمام الوعي أنّ الثورة كالشجرة التي تغرسها لا تعطيك ثمرها إلّا بسقيها ورعايتها والصبر عليها سنوات طويلة أحيانًا.

إنّ الاتّكاء على شرعيّة التضحية جعل من المعنيين بالشأن العام والمطالبين بحقّهم في السلطة ممّن لم يعرفوا السجون في حالة لا يُحسدون عليها

إنّ الاتّكاء على شرعيّة التضحية جعل من المعنيين بالشأن العام والمطالبين بحقّهم في السلطة ممّن لم يعرفوا السجون في حالة لا يُحسدون عليها، فقد ذهب بعضهم إلى حدّ الصراخ في التلفزيون بعد أن ضاق ذرعًا بكلام جليسه الذي بالغ في التذكير بتضحياته وتضحيات إخوانه في السجن قائلاً: "كلّنا في زمن الاستبداد كنّا مسجونين، الوطن كلّه كان سجنًا كبيرًا وأحيانًا السجن كان أرحم من الخارج"، لعلّ في كلام هذا الأخير مبالغة أيضًا، فشتان بين أن يكون المرء حبيس جدران وفي زنزانة قذرة وموحشة تحت رقابة السجّان وبطشه، وأن يكون طليقًا في أسوأ الحالات على الأقلّ يراقب تعاقب الليل والنهار وينعم بتأمّل النجوم في السماء وزرقة البحر حتّى وإنْ حُرم من ممارسة حرّياته المدنيّة وأُجبر على ملازمة الصمت ومهادنة الحكام أو تجنّبهم اتّقاء لشرّهم، غير أنّ هذا لا يخفي خطورة منطق الشرعيّة السجنيّة لأنّ هذه الشرعيّة من حيث الشكل والكمّ فيها تراتبيّة داخليّة، فمن سُجن عشرين سنة ليس كمن سُجن عشر سنوات وهكذا دواليك فمن سُجن سنة كاملة ليس كمن سُجن شهرًا واحدًا على الرغم من أنّه نظريًّا قد يذوق الإنسان من العسف والتنكيل في شهر واحد ما لم يذق مثله سجين السنة، كما أن من سُجن في لاهاي أو في سجن أوروبي يمارس الرياضة ويشاهد التيلفزيون وكأنّه في فندق ليس كمن نزل في غوانتنامو أو في بو سليم في طرابلس أو برج الرومي في تونس أو تزما مرت في المغرب سيّئة السمعة جميعًا والتي لا نعرف أيّها أرحم من الآخر، أم أنّها في أغلب الظنّ نسخ من بعضهم البعض، القضيّة معقّدة وخلفيتها إنتروبولوجيّة لكون التضحية ارتبطت في معظم الثقافات بالمقدّس وما قصص الأنبياء إلاّ خير دليل على ما أقول، فكلّهم ضحّوا واضطُهِدوا ومن ثمّة اكتسبت رسائلهم شرعيتها، فمن الطبيعي أن تصبح التضحية لتجذّرها في الثقافة الإنسانيّة مصدرًا أساسيًّا للشرعيّة، ولكن المفارقة تكمن في أنّ الشرعيّة السجنيّة ذاتها التي تقدّم نفسها -وإنْ دون وعي منها– على أنّها أفضل الشرعيّات وأشرفها ومن ثمّة أحقّيتها بالحكم هي شرعيّة ثانويّة، انطلاقًا من مفهوم التضحية ذاتها مقارنة بشرعيّة الاستشهاد أي من ماتوا من مساجين الرأي في السجن أو أولئك الذين حصدهم الرصاص في الشوارع أو في المعارك ضدّ الطغيان الذين لا شرعيّة تضاهي شرعيتهم رحمة اللّه عليهم حسب منطق التضحية ذاته.

وخلاصة القول إن المبدأ الذي ينبغي أن يقود المجتمعات في إعادة تأسيس نظمها السياسيّة وبناء مؤسّساتها بعيد الثورات لا ينبغي أن يكون على قاعدة مكافأة من ضحّوا في سبيل تحريرها وإنّما من تتوافّر فيه الكفاءة، لذلك حتّى وإنْ لم ينل شرف التضحية، ومن البديهي أن تُحفظ كرامة المضحّين ويقع تكريمهم مثلاً بإطلاق أسمائهم على الساحات والشوارع والتعريف بهم لدى الأجيال القادمة بتدريس مآثرهم في المناهج الرسميّة للطلّاب أفضل من أن يتحمّلوا أعباء حكم لا طاقة لهم به فيملّهم الناس ويسخطون عليهم، فيخسرون ماضيهم وحاضرهم.