Atwasat

الليبي.. قصبة تُفكرّ!

نورالدين خليفة النمر الأحد 26 نوفمبر 2017, 10:22 صباحا
نورالدين خليفة النمر

المديرة العامة لليونسكو في كلمتها يوم 3 نوفمبر 2017 بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة استعارت عن الفيلسوف الفرنسي بليز بسكال جملة: "ليس الإنسان سوى قصبة، لكنه قصبة تفكر". ما لمع في ذهني التقاطها من جملة الفيلسوف وفيزيائي السوائل والرياضي مخترع الآلة الحاسبة: مبدأ أن الكرامة، البشرية، تكمن كلها في التفكير. لا تفكرّ فيما صرّح به المندوب الأممي غسان سلامة عن بوابة الوسط يوم الاثنين 20 نوفمبر 2017 في حواره لمجلة «ليدرز» التونسية بقوله "لا يهمنّي ماضي الليبيين بقدر ما يهمّني مستقبل بلادهم"، فاتفاق الصخيرات منغلق على الأطراف السياسية النزاعية الليبية التي ساندته وأعتبرته ملكا خاصّا غير قابل للتقاسم مع الآخرين، في حين أنّ الاتفاق السياسي الحقيقي هو الذي يضمن لنفسه الاستمرارية بازدياد عدد المنخرطين فيه. لذلك أريد كسر هذا الاحتكار المفروض وفسح المجال لا فقط أمام أنصار النظام (الدكتاتوري) السابق بل وحتّى أمام أنصار المَلكيّة.

لنعد عبر سيرة فكرية مهنية إلى ماضي الليبين الذي يريد المندوب الأممي استبعاده من التفكير. إذ بعد أحداث السابع من أبريل 1976 صارت المجاهرة بالتخصص في الفلسفة بآداب بنغازي، ليست فقط نزوعاً معرفيا يتضارب مع الذهنية المجتمعية المُغلقة إزاء التفكير بل مخاطرة سياسية محفوفة بالإكراهات والعنت فقد طال السجن لأزيد من 10 سنوات اثنين من طُلاب السنة التخصصية الأولى، ثم لحق بهما طالب ثالث بعد عامين تميز إثنان من الثلاثة بموهبة الكتابة الأدبية وصارا بعد خروجهما من السجن إلى اليوم من كُتاب ليبيا المرموقين، وبسبب السجن انسلخا عن إيهاب الفلسفة، وصعد الطالب الرابع في القسم الذي أودى بزملائه وطُلاّب غيرهم إلى المعتقل إلى الدائرة العليا للسلطة الدكتاتورية العاسفة حتى الثورة الشعبية الليبية عام 2011 وهو اليوم يقبع في السجن ليس فقط لموالاته للنظام المنهار بل لتدويره مع رفاقه في حركة اللجان الثورية لـ3 عقود ماكينة العنف وإقصاء وجهة النظر الفكرية لشريكه المواطني ملوّحاً في وجهه بتهم الرجعية، والحزبية، والتعويق وغيرها. بقية الطُلاب لم يتميز أحدهم بالكتابة والتأليف. أما أنا فقد تنكبّتُ فكرياً طريق الفلسفة متخداً كالحرباء تغيير لون جلدي وسيلة للسير بهدوء في الطبيعة الذهنية الليبية عموما والمسيّسة الدكتاتورية الاستثنائية التي باختلاف بيئاتها معادية فطرياً للتفكير والفلسفة. ومهنياً كافحت بأن أتسلّل رغم العوائق عبر مواصلة الدراسة مابعد الجامعية بكل مناقصها المعرفية وعواثيرها الثورية للحصول على وظيفة أكاديمية تقيني من إكراهات العسكرة كالالحاق بالتجنيد العسكري الإلزامي لمدة مفتوحة لسنوات، أو الإجبار على الجمع بين وظيفة المعلّم وضابط الجيش بعد تحويل الإعداديات والثانويات إلى ثكنات عسكرية، أو التحويل على كادر أحد الأجهزة الأمنية لتغذية ملاكاتها بالكفاءات الجامعية التي تحتاجها بإلحاح لتوسّع مهامها الأمنية والمباحثية.

واصل قسم الفلسفة في جامعة بنغازي بعد عام 1979 وظيفته التعليمية المحضة لمصلحة طالب الفلسفة بأن يُصارمنظرّاً و قيادياً في حركة اللجان الثورية يدعمه فكرياً أستاذٌ ليبي تأهل جامعياً في الحقبة الاستقلالية وفي فرنسا اختص في الفلسفة الوجودية المتمركسة. أما التفكيرية النابعة من الإنسان ـ القصبة والتي هي مهمة روح التفكير فقد تمّ النكوص عنها لتصير جدوى الفلسفة ومبرّرها الوحيد منذ ذلك العام تفسير النظرية السياسية التى اقترحها رأس النظام الدكتاتور في كتيّبه المعروف بالكتاب الأخضر بفصوله الثلاثة التي رتآها دون أن يطلب أحدٌ منه ذلك حلاً جذرياً لمشكلة السلطة والاقتصاد والاجتماع البشري.

تصير المهمة العاجلة لمناشط التفكير المنخرط في المجتمعيات ومنها الفلسفة أن تتأمل اليوم في واقعها من 2012 حتى نهاية 2017، وترمي كمهنة ومهمة لإنتاج الأفكار وراء ظهرها الحقب الليبية التي أهملتها بل استبعدتها كالحقبة الاستقلالية التي تأسست فيها الجامعة 1955 إلى 1969 حيث قادت العقلية المحافظة في المجتمعيات والسياسات البلاد مستبعدة المهمة الفكرية والسياسية بمهمة إدارية لحكومة مؤهلة لتصريف الموارد المادية الشحيحة في توفير الحدّ الأدنى من أسباب العيش للمواطنين، ثم بعد تصدير النفط عام 1964 حتى 1970 في تأهيل البوادر المتعلّمة في البلدان الأوروبية وأميركا لتسيير المهمة التنموية في القطاعات المادية والخدمية وهو ما استمر بتطرّف في الحقبة الدكتاتورية العسكرية من 1969 ـ 1977 ثم الحقبة الديماغوجية الأوتوقراطية 1977 ـ 2011 التي استثمرت وقت الفراغ الفكري للمجتمع الذي انخرط في الريعية والاستهلاكية التي فجرّها تصدير النفط وبيعه بأسعار لافتة بأن عسفت بالمعارف الإنسانية ومنها الفلسفة فزّيفت جوهرها ومهمتها وصيرتها مع غيرها من الاختصاصات الإنسانية تفسيراً لملّفقات ايديولوجية ماسخة في شعبويتها وغرائبيتها للدكتاتور الأوتوقراطي الذي واجه وحيداً العالم بأوهامه ورعوناته مستبعداً في معركته الديماغوجية الليبيين من حساباته حتى فاجؤوه بثورتهم الشعبية المسلحة المميتة التي قتلته في مشهدية وحشية أظهرت على السطح كل البدائيات والكراهيات التي بذرها في المجتمعيات الليبية طوال أربعة عقود.

ما زال التشديد من طرف اليونسكو على الحاجة الماسة إلى الفلسفة كونها تدعونا إلى تجاوز حدود حساسيتنا ورؤيتنا الفكرية لبلوغ حرية أوسع أفقاً فالفلسفة قبل أن تقدم أجوبةً، تتيح طرح الأسئلة المناسبة. المندوب الأممي وهو يلاحظ ظرافة الساسة الليبيين النزاعيين الذين يلتقيهم دون غيرهم بحكم مهمته هل طرح على نفسه سؤالاً لماذا هم يلجؤون إلى التحدّث بلغة بدوية في ما بينهم عندما يسعون إلى المصالحة والتقارب مع بعضهم، وإلى لغة (القانون) لمّا يريدون التعدّي على الآخر الليبي وتهميشه وإقصائه؟. هذا يمكن وصفه بالديماغوجية وهي موروثة جينية في ساسة اليوم الذين أغرقوا ليبيا في انقسامية الفوضى ختى يحافظوا على مكاسب النفوذ والمال التى نزلت عليهم بسبب الثورة التي سرقوها من الناس، ومن أيديولوجيي الأمس الدكتاتوري الذين جمّدوا ليبيا في مثلث الدكتاتورية، والأتوقراطية الفوضوية ،وإهدار الإمكانية البشرية والمادية والذين يقترح المندوب الأممي إعادتهم للمشهد لكي يسترّدوا ماأخسرتهم الثورة التي أسقطتهم. وإذا اعتبرنا القانون والسياسة لغة مصالح، فلا لغة مطالبة للملكيين لأنهم ماتوا ومصالحهم، أما القصب المُفكّر فتنكُّب طريق الفلسفة متخداً كالحرباء تغيير لون جلده وسيلة للسير بهدوء في طبيعة الذهنيات الليبية ومخاطرها.