Atwasat

الهجرة ومستقبل الوطن

نور الدين السيد الثلثي الأربعاء 01 نوفمبر 2017, 08:50 صباحا
نور الدين السيد الثلثي

الهجرة مستمرةٌ عبر الأقاليم والقارات قبل وبعد نشأة الدول ورسم الحدود. نزح البشر وتنقّلوا عبر التاريخ من دون اعتبارٍ لحدودٍ، سعياً وراء الموارد اللازمة للبقاء، وفي هجراتٍ كبرى، استعماراً واستيطاناً واتّجاراً في الرقيق وهرباً من الحروب والاضطهاد والمجاعات والأوبئة. وتندلع حروبٌ للأسباب نفسها الدافعة إلى الهجرة، طمعاً أو سعياً لمجرّد البقاء في مواجهة نقصٍ في الموارد الضرورية للحياة، ولم تكن بلادنا استثناءً فقد شهدت هجراتٍ كبرى منها وإليها وأخرى بين المناطق داخلها.

منطقة "الساحل" حزامٌ جغرافي يشكّل فاصلاً طبيعياً بين الصحراء الكبرى والعمق الأفريقي الخصب، ممتدّاً من السنغال وموريتانيا غرباً حتى السودان وأريتريا شرقاً، وبعمقٍ يصل إلى بضع مئات الكيلومترات من أرض يغلب عليها الجفاف.

لم يتجاوز مجموع سكان دول الساحل سنة 1950 حوالي 30 مليون نسمة؛ ليقفز سنة 2014 إلى حوالي 130 مليوناً. من بين دول الساحل دولة النيجر، هي أفقرُ دول العالم إطلاقاً حسب مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية، وهي أيضاً الأعلى نموّاً للسكان في العالم. أحد سناريوهات النمو السكاني - وهي التي تختلف باختلاف فرضياتٍ حول تطور عدد أفراد الأسرة ومعدلات وفاة المواليد ومتوسط العمر المتوقع وغيرها - بقاعدة بيانات قسم السكان بمنظمة الأمم المتحدة يتوقع زيادةً في عدد سكان منطقة الساحل إلى حوالي 338 مليوناً سنة 2050، وفي عدد سكان الدول المحيطة بليبيا خارج دول الساحل (مصر وتونس والجزائر) إلى حوالي 220 مليون نسمة، ما يرفع عدد السكان بدول منطقة الساحل والدول العربية المحيطة بليبيا في نفس السنة إلى حوالي 558 مليون نسمة، بينما يرتفع عدد سكان ليبيا في نفس السنة إلى حوالي 8.4 مليون نسمة. ونيجيريا لن تكون بعيدةً بعدد سكانٍ متوقعٍ سيصل إلى حوالي 398 مليوناً طبقاً لذات قاعدة البيانات.

ليبيا بثرواتها الطبيعية الوفيرة التي لا تقتصر على النفط والغاز، وبمساحتها الشاسعة التي تبلغ 1,759,540 كلم مربعاً، وكثافتها السكانية المنخفضة، طبيعيٌّ أن تكون محطَّ النظر كمجالٍ طبيعي يوفّر أسباب البقاء، وليس فقط مستوى معيشة أفضل، لجيرانها المحيطين بها. وهي كذلك من الآن. ليبيا بحدودٍ برّيةٍ يبلغ طولها 4,339 كيلومتراً وساحلٍ على البحر المتوسط طوله 1,770 كيلومتراً، سيكون من الصعوبة بمكان أن تصدّ أمواج المهاجرين الباحثين عن سبل العيش والبقاء على أرضها وعبرها إلى أوروبا.

تواجه ليبيا الآن ضغطَ الهجرة المنطلقة عبر حدودها الجنوبية وضغطاً أوروبياً مقابلاً لمنع الهجرة العابرة نحو جنوب أوروبا. وقد تم تدمير الدولة الليبية على يد الليبيين أنفسهم، بغض النظر عن وجود دولٍ ساعدت وموّلت ودفعت باتجاه انحدارها إلى هذا الحال

تواجه ليبيا الآن ضغطَ الهجرة المنطلقة عبر حدودها الجنوبية وضغطاً أوروبياً مقابلاً لمنع الهجرة العابرة نحو جنوب أوروبا. وقد تم تدمير الدولة الليبية على يد الليبيين أنفسهم، بغض النظر عن وجود دولٍ ساعدت وموّلت ودفعت باتجاه انحدارها إلى هذا الحال. ونصّبت الدول الممسكة بزمام الأمر هيكلاً من الموظفين فرضتهم حكومةً’ شرعيةً‘ يُسيّرونها ويبرمون معها الاتفاقات لمنع المهاجرين من ارتياد البحر نحو أوروبا وإرجاع من ينجحون في ذلك إلى الأرض الليبية، ليواجهوا مصيراً بائساً تُنتهك فيه كرامتهم وأبسط حقوق البشر. استمرار هذا الحال سيضاعِف أعداد المهاجرين المحتجَزين ويرفع وتيرة الاحتجاجات الحقوقية الدولية والضغوط الدولية ما سيؤدّي في وقتٍ قد لا يكون بعيداً إلى فتح أبواب الاحتجاز وفُرص الإقامة والعمل. عندها ستتحول الهجرة غير الشرعية إلى هجرة استيطانية مفروضةٍ، ويندثر الوطن.

نجاة ليبيا كوطنٍ منوطةٌ بإعادة بناء الدولة وتأسيس حكمٍ وطنيٍّ متينٍ مستقر. عند ذلك سيكون النظر المخلص الجاد - وبولاءٍ غير منقسمٍ بين داخلٍ وخارج - في مستقبل الوطن وسط محيطٍ عظيمٍ من البشر تنقصه الموارد ويعصف بأمنه الجفاف والاضطرابات والتغير المناخي وانفجارٌ سكاني. سيكون من الضروري عندها رسم طريقٍ من شأنه المحافظة على الوطن بهويته الثقافية التاريخية وارتباطه العضوي والمصيري بأمته. وعندها ستكون الهجرة المنظَّمة عنصراً لا يمكن تجاهله من منظورٍ غايته تعزيز قوة البلاد وهوية شعبها ومنَعتها. وعندها سيكون من مقتضيات المصلحة، والواجب أيضاً، مدّ يد التعاون الصادق وإقامة التحالفات والقيام بواجبات الجوار بما يرفع المعاناة ويحقق الأمن والازدهار للجميع.

والبداية رهنٌ بانتهاء التشظّي والعبث، وبالتحرّر وإرساء دعائم الدولة.