Atwasat

فتراتٌ فاصلة

نور الدين السيد الثلثي الإثنين 25 سبتمبر 2017, 09:38 صباحا
نور الدين السيد الثلثي

تمرّ ليبيا بفترةٍ فاصلة بين عهدين؛ للدور الدولي فيها وزنٌ حاسم، تماماً مثلما كانت السنوات الفاصلة بين عهديْ الاستعمار الإيطالي والاستقلال، وتلك المؤدّية إلى سقوط البلاد في قبضة الاستعمار الإيطالي.

مضى أكثرُ من قرنٍ على الغزو الإيطالي، وأكثرُ من سبعين عاماً على اندحار إيطاليا واستقلال البلاد. لعلّ في الأحداث المُفضِية إلى تلك التحوّلات دروساً وضوءاً تلقيه على جوانب مما يجري في المرحلة الفاصلة الحالية. القراءة هنا هي من منظور مصالح الدول وأطماعها وطبيعة الدور الدولي وآثارِه الحاسمة في مستقبل البلاد وتعاقب العهود. وتأتي هذه القراءة بشكلٍ رئيسيٍّ من خلال العودة إلى صفحاتٍ من كتابين مهِمَّـيْن في تاريخ ليبيا، هما «أصول الأمة الليبية» لكاتبته أنّا بالدينيتّي، و«ليبيا الحديثة» لمجيد خدوري (*).

مشروع احتلال
بعد أن اتضح لإيطاليا أن تونس كانت في طريقها للسقوط في دائرة النفوذ الفرنسي، أدركت أن مشروعها الاستعماري في تلك البلاد لم يعد وارداً، ووجّهت اهتمامها بدلاً من ذلك نحو ولايتي طرابلس وبرقة العثمانيتين.
أسست إيطاليا لمشروع احتلال ليبيا باستثارة الشعور القومي والتأكيد على المكتسبات التي يعود بها احتلال ليبيا من ناحية، وبالسعي للحصول على «شرعيةٍ دولية» تُبنى على تأييد القوى الأوروبية لها من ناحية أخرى. حصلت إيطاليا سنة 1887 على موافقة ألمانيا، ومن قبلها بريطانيا، على إطلاق يدها في ليبيا، وجاء بعد ذلك اعترافٌ من النمسا وفرنسا بمصالح إيطاليا في ليبيا، وأخيراً على موافقة روسيا على أخذ المصالح الإيطالية في المنطقة بعين الاعتبار. وهكذا تحصّلت إيطاليا على اعتراف دولي بـ «مصالحها» في ليبيا مهّد لتدخّلها العسكري دفاعاً عن تلك المصالح.

«الاختراق الهادئ» مقدِّمةً للغزو
أسست إيطاليا لمشروع احتلالها لليبيا على خلفيةٍ من تاريخ الإمبراطورية الرومانية، ولضرورته ضماناً لمستقبل إيطاليا كقوة كبرى في البحر المتوسط. كانت الغاية من الاحتلال في خطاب تلك الفترة سياسيةً وليست اقتصادية.
وشهدت بداية القرن العشرين تمهيداً لمشروع الاحتلال بانتهاج ما سُمِّي بسياسة «الاختراق الهادئ». بدأ قنصل إيطاليا في طرابلس بين سنتي 1888 و1890 الاتصال بحسّونة القرمانلي، وريث الأسرة الحاكمة في طرابلس حتى عام 1835 وإغرائه بعودة أسرة القرمانلي لحكم طرابلس كمحميّة أوروبية. وفتح بانكو دي روما سنة 1907 فرعاً له في مدينة طرابلس ومكاتب في مدن أخرى قامت بمبادرات عدّة في قطاعي الزراعة والصناعة.

وشجعت السلطات الإيطالية على انتقال الإيطاليين وإقامتهم في طرابلس وبرقة. وأنشأت إيطاليا، إضافة إلى المبادرات المالية والاقتصادية، مؤسساتٍ تعليمية أُلحِقت بالبعض منها ملاجئ أيتام ومستوصفات. يرى المؤرخ الفرنسي دانيال قرانج أن سياسة «الاختراق الهادئ» تلك قد حققت هدفها الرئيسي المتمثّل في تقديم الدليل للقوى الأوروبية بأهمية المصالح الإيطالية في الإقليم دعماً لسعيها للحصول على «الشرعية الدولية» اللازمة.
نادت الدوائر القومية الإيطالية باحتلال ليبيا من أجل المحافظة على مصالح إيطاليا، وأطلقت الصحافة بداية من الأشهر الأولى من سنة 1911 حملةً واسعة تروّج للاحتلال وتدفع باتجاهه. بالغت تلك الحملة في وصف غِـنَى البلاد وخصوبة أرضها دون التطرق لشحّ مياهها، وفي تصويرها لسهولة العملية العسكرية، وكيف أن الإيطاليين سيكونون محلّ ترحيبٍ من الليبيين التوّاقين للتخلص من الحكم العثماني.

نزْع القناع
وجهت الحكومة الإيطالية في 28 سبتمبر سنة 1911 إنذاراً للإمبراطورية العثمانية مبنياً على ما وصفه الإنذار بحالة «الفوضى والإهمال» التي عمّت الإقليم ما يدفع إيطاليا للمضي قدما لاحتلال طرابلس وبرقة. كان الرد العثماني مهادِناً ومعبِّراً عن الاستعداد لتقديم الضمانات اللازمة لحماية المصالح الإيطالية. ولكن إيطاليا كانت قد اتخذت قرارها، فأعلنت الحرب على الإمبراطورية العثمانية في 29 سبتمبر ومضت في عملية غزو طرابلس وبرقة في 3 أكتوبر 1911. وفي 5 نوفمبر 1911 صدر مرسومٌ ملكي يقضي بضمّ الولايتين إلى الأراضي الإيطالية.
استمر الاحتلال الإيطالي لليبيا لثلاثة عقود شهدت ليبيا خلالها مصادرةً للأرض ومعتقلاتٍ للإبادة وشنقاً في الميادين ونفياً إلى جزر بعيدة، وجهاداً عظيماً وتضحياتٍ جساما.

انتقال القضية الوطنية إلى الساحة الدولية
بانتهاء الحرب العالمية الثانية، أصبحت برقة وطرابلس تحت الإدارة العسكرية البريطانية، وفزان تحت الإدارةٍ الفرنسية. وأصبح الأمر في تقرير مستقبل البلاد بيد الدول المنتصرة الأربع الكبرى (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي) وللجمعية العامة للأمم المتحدة والمجلس الاستشاري المعين من قِبلها ومبعوثها إلى ليبيا (أدريان بلت) من بعد ذلك، ما كشف عن صراعاتٍ وتنافسٍ بين الدول كلٌّ لتحقيق مصالحها، واختلافاتٍ في الرؤى والمصالح بين الأطراف الليبيين أيضاً.

لجنة التحقيق الدولية
خلصت لجنة التحقيق التي أرسلتها الدول الأربع لتحرّي الأوضاع في البلاد إلى أن هناك اتجاهاً يكاد يكون إجماعياً بين الليبيين على التحرر من الحكم الأجنبي ونيل الاستقلال، إلا أن اللجنة رأت في فقر البلاد وندرة مواردها ما يجعلها غيرَ مهيأةٍ للاستقلال، الأمر الذي عزّز الاتجاه نحو وضع البلاد تحت الوصاية الأممية. ولكن خلافاتٍ شديدة ظهرت بين الدول حول مدة الوصاية والدولة أو الدول التي يُعهد إليها بإدارة البلاد.

مواقف الأطراف الإقليميين والدوليين
لم تكن جامعة الدول العربية بعيدة عن القضية الليبية، ولم تكن مواقفها ومواقف أمينها العام عبد الرحمن عزام مساعِدةً تماماً. يبرز من بين تلك المواقف قرار مجلس الجامعة في 17 مارس 1951، بدعوة الدول العربية إلى عدم الاعتراف بالحكم الدستوري الذي أسّست له الجمعية الوطنية الليبية، وتدخّلات الأمين العام عبد الرحمن عزام المناهضة لزعامة السيد إدريس السنوسي، والطاعنة في شرعية الجمعية الوطنية الليبية بذريعة أنها لم تكن منتخَبة وأن تشكيلها لم يكن متناسباً مع عدد السكان.

بريطانيا وأميركا رأت وضع برقة تحت الوصاية البريطانية وأن يؤجل القرار لمدة سنة بالنسبة لطرابلس وفزان

رأت بريطانيا وأميركا وضع برقة تحت الوصاية البريطانية وأن يؤجل القرار لمدة سنة بالنسبة لطرابلس وفزان. كانت بريطانيا قد وعدت السيد إدريس بألا تعود برقة إلى السيطرة الإيطالية، ولم يشمل ذلك الوعد طرابلس التي كانت على وجه الخصوص محل أطماعٍ إيطالية مستمرة، مطالِبةً أن تكون لها الوصاية على ليبيا بكاملها. أما الاتحاد السوفييتي فقد أظهر هو أيضاً رغبته في أن توضع طرابلس تحت وصايته قبل أن يغيّر موقفه إلى دعم عودة إيطاليا إلى ليبيا. وكان موقف الصين إلى جانب منح البلاد الاستقلال فوراً.

وسط اختلافاتٍ حادّة حول المطالبات المتضاربة بإدارة ليبيا أو أحد أقاليمها الثلاثة تحت الوصاية الأممية، ودعواتٍ لمنح الاستقلال أو إرجائه لمدة عشر سنوات، ظهرت خطة بيفن-سفورسا باتفاقٍ بريطانيٍّ إيطالي توضع ليبيا بموجبه تحت وصاية الأمم المتحدة ويُعهد لبريطانيا بإدارة برقة وإيطاليا بإدارة طرابلس وفرنسا بإدارة فزان، وتُمنح البلاد استقلالها بعد عشر سنوات.

أيدت خطةَ بيفن-سفورسا بريطانيا والولايات المتحدة وكتلة أميركا اللاتينية، ولاقت معارضة من أصوات الدول العربية والأوروبية الشرقية، وكان صوت هايتي حاسماً في رفضها الخطة ومنعها من الحصول على أغلبية الثلثين اللازمة لتمريرها. وهكذا «أخفقت الجمعية العامة في الموافقة على الخطة بسبب اختلاف الدول الكبرى لا بسبب المظاهرات التي قامت في طرابلس»، يقول مجيد خدوري.

ليبيا والمصالح الدولية
تطلّبت منظومة علاقات القوى الدولية القائمة في أواخر القرن التاسع عشر حصول إيطاليا على «شرعية» أساسُها إقرار من القوى الأوروبية وقتها بأن لإيطاليا مصالح حيوية في ليبيا. وكان لإيطاليا ما أرادت كما سلفت الإشارة. أما في المرحلة الفاصلة بين الاستعمار الإيطالي واستقلال البلاد فقد كان فشل الدول في الاتفاق على تقسيم البلاد تحت وصاية الأمم المتحدة وإدارتها من قِبل إيطاليا وبريطانيا وفرنسا دافعاً رئيسياً نحو منح ليبيا استقلالها، ذلك بالإضافة إلى ما أشار إليه مجيد خدوري بقوله: «أظهر [الزعماء الليبيون] براعةً فائقة في استغلال الخلافات بين الدول لضمان حرية بلادهم». وهنا نستحضر الشخصيات الليبية الفاعلة في مرحلة النضال من أجل الاستقلال في أربعينيات القرن الماضي مقابل من نراهم على مسرح الأحداث اليوم. واحتراماً للأوّلين وذكراهم يمتنع التشبيه أو المقارنة بالآخِرين.

نجد أنفسنا اليوم في فترةٍ جديدةٍ فاصلةٍ بين ثورةٍ مدمِّرة ودولةٍ مأمولةٍ تقيم القانون وتصون الحقوق. والدور الدولي حاضرٌ مرةً أخرى، بل هو أبعد وأعمق أثراً. ما نراه اليوم هو وصاية دولية حقيقية و«خرائط طرق» ترسمها وتدير تنفيذها «مجموعةٌ دولية» لا تتحمّل مسؤوليةً عن الفشل؛ ليبيا دولة ذات سيادة ولها حكومتها «الشرعية» وإن كانت قد عيّنتها وباركتها ذات «المجموعة الدولية».

هل سيستمر توافق «المجموعة الدولية» والتوفيق بين مصالحها في ظلِّ الفوضى القائمة والنظام الجديد الذي سيؤول إليه أمر البلاد في وقتٍ ما؟.

أم أنّ خلافاتٍ وأحداثاً ستستجدّ عاصفةً بالتوافقات والخرائط والأدوار؟. وهل سيبقى المسترزقون والمتطفّلون في صدارة العمل لإنقاذ البلاد من محنتها؟.

في التساؤل الأخير مفتاح الخلاص؛ توافقت الدول، مثلما فعلت تمهيداً للغزو الإيطالي لليبيا سنة 1911، أو اختلفت على وقْع تضارب أهدافها على النحو الذي أفسح الطريق لاستقلال البلاد سنة 1951.

------------------------------------------------
(*):
Anna Baldinetti, Origins of the Libyan Nation: Colonial Legacy, Exile and the Emergence of a New Nation-State, (Routledge Studies in Middle Eastern History)
مجيد خدوري، ليبيا الحديثة – دراسة في تطورها السياسي، ترجمة نقولا زيادة، دار الثقافة - بيروت