Atwasat

محمد الجراح .. رجل لن يتكرر

صفي الدين هلال الشريف الثلاثاء 05 سبتمبر 2017, 09:53 مساء
صفي الدين هلال الشريف

العقيد طيار مقاتل عادل عبدالله الجهاني (محمد الجراح) مواليد 29/04/1960م، انتقل إلى رحمة الله تعالى 29/07/2017 م، أحد مؤسسي وقياديي تنظيم حركة العصيان المدني بليبيا 2004/2005 م، تعرفت عليه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أواخر العام 2003م باسم (ألفا دبوب) وتحديدًا في غرف البالتك، ومن حينها أصبحنا على تواصل شبه دائم والتحق بنا في نفس الفترة السيد المناضل صبرة قاسم رجب (صقر بلال) وكنا جميعًا من داخل الوطن، ومنها بدأت فكرة تنظيم حركة العصيان المدني في ليبيا التي كان دائمًا ينادي بها السيد مصطفى محمد البركي رحمه الله وطيب ثراه.


لنعود لرجل بحجم وطن السيد عادل الجهاني (محمد الجراح).. كما أحب أن أناديه.. أعتقد من أصعب الأشياء أن تكتب عن شخصية تركت بصمات في تاريخها النظيف بالأفعال والتضحيات والنضال المشرف، اليوم يرحل عنا هذا الرجل النزيه، شهادتي فيه مجروحة شهادة في رجل قل نظيره، متواضع، صادق، شجاع، لا أقول هذا لأنه رفيقي في المحن والنظال ضد الطغاة والدكتاتورية وانتهاك حقوق الإنسان وحرية الرأي، كان مناضلاً حتى رحيله عنا والذي آلمنا كثيرًا.

العقيد طيار مقاتل عادل عبدالله الجهاني (محمد الجراح).. لقد كان لي شرف العمل معه وثلة من الوطنيين الأحرار في الداخل والخارج طيلة سنوات في السر والعلن.. حديثه دائمًا عن الوطن، أحلامه بسيطة نهاية دولة الدكتاتورية والتخلف والمحسوبية والفساد والفشل والخراب وبناء دولة مدنية دولة المؤسسات والقضاء المستقل، وأن نساهم في نهضة المجتمع ليصبح راقيًا.
العقيد طيار مقاتل عادل عبدالله الجهاني (محمد الجراح) تعجز الكلمات أن تصفه، ما ألم بي وأصابني من حزن وألم على فقدان رجل قل نظيره في هذا الزمن الأغبر، أعلم يا رفيقي أنك لن تقرأ ما أكتبه في هذا المقال ولكن ليعرف الجميع من هو (محمد الجراح) البطل الشجاع الذي ضحى بكل ما يملك من أجل وطنه وأبنائه وأبناء هذا الوطن. صديقي الوفي وأخي، عجز قلمي عن ترتيب الجُمل والكلمات والتي لم ولن تفي حقك وليعلم الجميع أن هذا ليس قدرك، ليعلم الجميع أنني أكتب عن شخصية وإنسان كان فعلاً في ندرة الزمان. كان بإمكانه أن يبقى في بيته (وللعلم لا يملك بيتًا وإنما يسكن بالإيجار حتى الآن)، ولكن حب الوطن والتضحية من أجله كان هو الدافع الأول فالوطن سكن جسد الجراح قولاً وفعلاً.. (محمد الجراح) الإنسان القنوع كان لا يهمه متاع الدنيا وكان كل همه الوطن وأبناء الوطن، قارع الطغيان طيلة سنوات خلت، قام بتوزيع المناشير في شوارع العصية كان يتجول ليلاً ويرمي الأفلام وإنتاجات حركة العصيان (ديسكات) داخل السيارات، كتب المقال تلو المقال كان دائمًا يحث على فضح النظام الدكتاتوري وانتهاك حقوق الإنسان وحرية الرأي، اشتهر بشجاعته والكل يشهد بذلك رفاقه وجيرانه، ومن طيارين وضباط ممن عملوا معه لم يكن يخشى الجهر بالحق بالقول والفعل.. وأنا شخصيًا عاينت ذلك فترة احتجازنا في معتقل بوسليم حيث مكثنا سبعة أشهر في زنانة واحدة فلم يخش السجانين يومًا.. كان يتحلى بالثقة في النفس والشجاعة والجرأة التي لا مثيل لها حتى وصل به الأمر إلى رسم شعار العصيان المدني على جدار الزنزانة وبحجم كبير.


كما قام برسم صورة معبره تصف الطاغية والثوار ونسور الجو متمثلة في (محمد العقيلي والمهدي السمين وفخري الصلابي وحسين الورفلي) وغيرهم من الأبطال الأشاوس رحمة الله عليهم جميعًا وثورة فبراير، وهذه اللوحة كادت أن تسبب لنا مشكلة كبيرة مع إدارة معتقل بوسليم لتشابه وجه في هذه الرسمة مع أحد سجاني المعتقل وبحنكة وذكاء (محمد الجراح) خرجنا من هذه المعضلة بسلام والحمد لله، كان يرسم على جدران الزنزانة بأقل الإمكانيات في المعتقل الرهيب.


الحديث عن (محمد الجراح) لا ينتهي، يعجز القلم عن الكتابة عن رجل بحجم وطن، كانت مقالاته بحجم وطن تتحدث عن هموم المواطن والوطن كان شغله الشاغل، لقد ترك لنا ولأسرته وللوطن تاريخًا مشرفًا، أعلم أنني مهما قلت ومهما كتبت لن أوفيه حقه ولمست وأنا أكتب هذا المقال بأن التعبير خانني في إيفائه حقه فلقد كان نعم الصديق والأخ الوفي رغم اختلافي معه بعض الأحيان إلا أن قلوبنا لم تختلف قط وكانت قريبة من بعضها البعض، كنا نقارع النظام الدكتاتوري من داخل الوطن وكلنا أمل في نهايته وأن نساهم في بناء الوطن الحبيب ولا نريد جزاء ولا شكورًا ويعلم الله بذلك، كنا خلية واحدة نعمل ليلاً ونهارًا.. صدقوني مطالبنا كانت بسيطة أن نعيش في وطن آمنين دولة يحكمها القانون والدستور أبناء الشعب سواسية لا فرق بين حاكم ومحكوم دولة المؤسسات والقضاء المستقل والتداول السلمي للسلطة.. تحقق حلمنا ونحن داخل المعتقل اللعين، خرجنا وعاد كل منا إلى سابق عمله.. عاد (محمد الجراح) إلى قاعدة بنينا الجوية، وعندما بدأت الحرب على الإرهاب عاد للطيران من جديد صقرًا لا يهاب الموت من أجل وطنه، علمًا بأنه تجاوز 15 عامًا وهو متوقف على الطيران، ولكن عندما نادى الوطن رجع بكل قوة وحماس، ويقول رفاقه في السلاح الجوي إن رحيل (محمد الجراح) خسارة فادحة للسلاح الجوي الليبي فلقد كان صقرًا يجوب سماء الوطن دفاعًا عنه من الإرهاب والمرتزقة المارقين.


العقيد طيار مقاتل عادل عبدالله الجهاني (محمد الجراح) كان خير مثال في حب الوطن والتفاني والإخلاص والمواقف المسؤولة والسيرة الطيبة.. وخير دليل التحاقة بعملية الكرامة منذُ بدايتها ولم يتوان يومًا واحدًا ولم يتمارض وقدم الغالي والنفيس روحه فداء للوطن... وقاتل الدواعش وهذه التنظيمات الإرهابية بكل ما أوتي من قوة ليس من أجل مصلحة شخصية أو شهرة أو نفوذ، وإنما من أجل هذا الوطن الجريح والذي لم يتعاف بعد من هذا الداء الخطير.

(محمد الجراح) كان رجلاً بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى فكانت حياته هي الثمن لكي نعيش نحن من بعده آمنين من هذا الداء اللعين، (محمد الجراح) ضرب لنا أروع الأمثلة في التضحية من أجل الوطن. يقول أحد مسؤولي السلاح الجوي إن الجراح لم يقدم يومًا واحدًا إجازة ولم يتمارض ولم يتقدم بأي طلبات خاصة منذُ التحاقة بمعركة الكرامة حتى يوم استشهاده، وعمل في أغلب القواعد الجوية في الوطن.


(محمد الجراح) الإنسان المحب للخير العطوف صاحب القلب الطيب، كان دائمًا يحدثني عن الفقراء والكادحين ويقول لي كيف يعيش ليبيون أقحاح فقراء معوزين والبلد تسبح على بحيرات النفط والغاز.. كتب عدة مقالات عن حالات الفقر والعوز في عهد الظلم والجور كتب عن الطفل الذي كان فطوره المدرسي عبارة عن قطعة من الخبز بالشاهي الأحمر.. كتب عن أغلب شرائح المجتمع والذين لا يملكون أبسط حقوقهم، كان يحدثني بحرقه تراها في عينيه وتحسها في قلبه.. كان همه المواطن البائس في هذا الوطن كان رفيقي صاحب مبدأ ولم يتغير ولم تغيره الظروف وبقي على مبدأه حتى الفراق الصعب، دائمًا يقول متى أرى وطني يعيش سعيدًا؟ رحل والأمنية في قلبه النظيف وكله أمل أن يرى أبناءه ومستقبلهم الزاهر في وطنهم معززين مكرمين وأن يكون وسطهم الأب الحنون.


(محمد الجراح) صديق الأطفال كان محبوبًا من جميع الأطفال في الشارع وأطفال الأقارب والأصحاب الكل يتحدث عنه بحرقه، بكاء عليه الأطفال قبل الكبار. (محمد الجراح) الأب كان أبًا عطوفًا، أبناؤه أصدقاؤه. كان يحدثنا كثيرًا عن ابنه أسامة آخر العنقود فهو الابن المدلل.. كيف كان يحدثني عن ابنته والتي تملك موهبة الرسم، وكيف كان يحضر لها أدوات الرسم ويعطيها النصيحة فهو رسام مبدع وحساس، كان الأب صاحب القلب الكبير الحنون على أولاده وغيرهم.

نعم نحزن على فراقه لأنه رحل عنا قبل أن يكتمل الحلم بحذافيره والذي بذل وأفنى عمره من أجل تحقيقه، ولكنه سيبقى ساكنًا في وجداننا، فقد أديت الأمانة التي كنت خير من اؤتمن عليها، سيحملها رفاقكم الأوفياء الشرفاء من بعدكم جيلا بعد جيل حتى يتحقق الحلم والأمل المنشود الذي ضحيت من أجله بالغالي والنفيس.
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).
أما من قتلوك غدرًا وأنت مقبل غير مدبر لأن أمثال (محمد الجراح) لا يعرفون الهروب والفرار وليسوا جبناء.. لكن من قتلوك غدرًا لا يمتون إلى الإسلام بصلة فهم خوارج واجب قتلهم، ومبادئ الإسلام تدعو إلى الرفق بالأسرى وتوفير الطعام والشراب والكساء لهم واحترام آدميتهم لقوله تعالي (ويطعمون الطّعام على حبه مسكينا ويتيمًا وأسيرًا)، لكن ينتقم الله منكم أيها الجبناء الرعاع.. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوارج (هم شرار الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم).
وفي ختام هذه السطور والتي كما قلنا لن تفي مثل (محمد الجراح) حقه وقدره، هو الدعاء لرفيقنا وأخينا بالمغفرة والرحمة والمنزلة الحسنة، سائلين الله عز وجل أن يلهم أهله وذويه وكل أصدقائه ورفاقه جميل الصبر والسلوان، ولله ما أخذ ولله ما أبقى وكل شيء عنده بمقدار، وأن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة وأن لا يحرمنا أجرك ولا يفتنا بعدك، وإنا لله وإنا اليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، أيها الشهيد البطل المناضل.. وألف رحمه تغشاك وحسبنا الله ونعم الوكيل. لقد عجز لساني عن التعبير ومهما قلت ومهما كتبت فلن نوفيك حقك وقدرك، فنم قرير العين في جنة الخلود.