Atwasat

الوصفة الديمقراطية

نورالدين خليفة النمر الأحد 20 أغسطس 2017, 10:56 صباحا
نورالدين خليفة النمر

الوصفة المسكِّنة المستعجلة التي تفصل الديمقراطية عن بنيتها التحتية، والمقدّمة لبلداننا، بالاقتصارعلى إصدار وثيقة دستورية كيف ماكان شكلها مع عدم وجود ضمانات مجتمعية لتطبيقها واحترامها، وتسيير وتنظيم وتكرار انتخابات بمكوّنات شكلية تستند على تمثيلية ملفقة لا تنفذ إلى عمق المجتمع ولا تؤثر فيه، ذلك هو ماعبرنا عنه بديمقراطية الواجهة ووصفناها في مقال سابق بموقع بوابة الوسط بالديمقراطية بلا ديمقراطية. وكما في كتابه "انتصار الفنان Le Triomphe de l’artiste"، الذي صدر بعد أسبوع من وفاته فبراير2017 يُوصينا المفكر تزيفيتان تودوروف بأن لايدفعنا الإحباط إلى أن نتخلى عن الديمقراطية، كمثال بل أن نجعل الديمقراطية التمثيلية أكثر ديمقراطية، وعندنا بأن نتفكّر دائما في كتابة الدستور ونتداول طرائق الانتخابات ذاتها مهما بدت نتائجها غير فعّالة كحقن لمداواة مرض الدكتاتورية.

نتفكّر دائما في كتابة الدستور ونتداول طرائق الانتخابات ذاتها مهما بدت نتائجها غير فعّالة كحقن لمداواة مرض الدكتاتورية

نلحظ حسب علم البنيات الاجتماعية أن هناك تعارضا تامّا بين مستوى الظاهرة ومستوى أحكام القيمة التي نحملها عنها. والديمقراطية كتصوّر يبدو في ظاهرة سياسية تسري عليها قوانين هذا التفكّر خصوصاً في تمظهراتها النيو ـ ليبرالية التي عمّق تطرّفها انتصارها نهايات القرن الـ20 على الاتحاد السوفياتي ومنظومته التي سمّيت في شرق أوربا بالبلدان الاشتراكية. فإدوارد لوس الذي أصدر يونيو 2017 كتابه "تراجع الليبرالية الغربيةTHE RETREAT OF WETERN DEMOCRACY" يكتب في مقاله بصحيفة " لوبوان" الفرنسية 3. 8. 2017 عن "الحياة" مُرجعاً انحسار مدّ ديمقراطيات الغرب في القرن الـ 21، إلى علّتين : ـ الهجوم العسكري على العراق الذي كانت ذرائعه شنّ الحرب لمكافحة أسلحة الدمار الشامل ونشر الديموقراطية في مجتمعات الشرق الأوسط التي أحكم بنياتها المُضادة للديمقراطية الحكام الأوتوقراطيون المُسقطين.

وما ترتب من الحصيلة الفوضوية، المحبطة ،التي أبانت تشوّه المهمة الحربية الذي يُرجعه الكاتب إلى سوء طوية الرئيسين اللذين قاداها، الأميركي جورج دبليو بوش باسم الجمهوريين وزمرة محافظيهم الجُدد، والبريطاني توني بلير باسم حزب المحافظين، إلى جانب افتقار شخصيهما كسياسين إلى النزاهة والكفاءة الأمر الذي أنزل بصورة الديمقراطية ضرراً فاذحاَ. والعلّة الثانية الأزمة المالية 2008 التي عصفت بالاقتصاد في البلدان الرأسمالية على ضفتي الأطلسي، فأصيب بالانكماش والركود، المصير الذي نأت عنه دول كالصين التي لم تتأثر معدلات النمو فيها؛ بل شهدت تعالياً فاق العشرة في المئة.

تصاعد أحداث التغيير السياسي التي شهدتها المنطقة العربية من شمال أفريقيا باتجاه المتوسط حتى منطقة الخليج من الاحتلال الأميركي الغربي للعراق والهيمنة الإقليمية الإيرانية التي طرأت عليه بعد ذلك، حتى بزوغ الانتفاضات التي نجحت في اقتلاع الأنظمة الدكتاتورية في بلدان ماعُرف بالربيع العربي رفع عقيرة نقّاد الوصفة الديمقراطية، الذين أبدوا الشكوك في عالمية "مبادئ الديمقراطية الليبرالية". أحد المعبريّن عن هذا التوجّه "ليون هادار" الذي كتب في الناشيونال انترست- في 19/2/2013: أنه لا يمكن الضغط على البلدان والقوميات المغايرة ثقافيا للغرب لتطبيق المبادئ الديمقراطية الليبرالية التي تحتاج إلى شروط تاريخية، وثقافية فريدة من نوعها، لاتتوفر جهوزيتها في هذه المجتمعات، وينصح أنه بدلاً من تبني مهمة عقيمة، وغير مثمرة لجعل العالم كُلّه مكاناً آمناً للديمقراطية، ينبغي أن تساهم النخبة السياسية الأميركية مع الشعب في تطوير مشروع التنوير بتطبيق المبادئ، والقيم الديمقراطية الليبرالية وإتقانها في أميركا والغرب ذاته.

مقولة إمكانية ولادة الليبرالية الديمقراطية من رحم الليبرالية الاقتصادية فقط، اعتبرها مفكّر الاقتصاد السياسي فرانسيس فوكوياما أسطورة واهمة

مقولة إمكانية ولادة الليبرالية الديمقراطية من رحم الليبرالية الاقتصادية فقط، اعتبرها مفكّر الاقتصاد السياسي فرانسيس فوكوياما أسطورة واهمة. فالازدهار الرأسمالي الذي ساعدت عليه العولمة شدد من قبضة النظام السلطوي الصيني على الاقتصاد. وعزز من قدرته على البقاء، والاستمرار، وإلغاء السياسة. النجاح الضيق والمحدود في الاستثنائين العالم ـ ثالثيين جزيرة سنغافورة التي لم يكن الفساد متاحاً فيها، بفضل صرامة ونزاهة الحاكم المؤسس لي كوان يو، وماليزيا الدولة الإسلامية المحافظة، النموذجان أتاحا للمواطنين والبلاد ازدهاراً اقتصادياً كبيراً، على الرغم من إنتهاجهما الديمقراطية "الموجَهة". كل ذلك ترافق مع تعاظم جاذبية نموذج النمو الصيني غير الديمقراطي او الاستبدادي بسبب تدفق الاستثمارات الصينية على أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا ومنها بلداننا العربية غير النفطية المعروضة عليها الوصفة الديمقراطية الغربية بالقليل أو بدون استثمارات اقتصادية مرنة وفعّالة.

يعيّن ريغينالد غروننبرغ للديمقراطية كفكرة وممارسة أربعة فضاءات: ـ فضاء التصوّر والإرادة: لواقع مؤهل لإمكانية العيش فيه، حيث يُتاح للشخص الديمقراطي الإدلاء بتصوّراته الخاصة وإبلاغ رأيه حول نظام الحكم، وإدارة مصالحه في الدولة في المنابر السياسية المتاحة كالأحزاب والجمعيات السياسية، والبرلمان، ومنظمات المجتمع المدني وعبر وسائل الاعلام، دون أية تحوطات من عقوبة ومخاوف من عسف، وإرهاب. ـ فضاء الفعالية :حيث الدوافع الكامنة يمكن إظهارها بالمساهمة في الفضاء الواقعي العام.

فيموضع الديمقراطي إرادته السياسية جزءاً من عملية السلطة المتمثلة في سن القوانين والتشريعات، وبانضوائه بفعالية في الأحزاب السياسية القائمة أو تأسيس حزب جديد حسب الاشتراطات الدستورية والقانونية المعمول بها والانخراط في الانتخابات، والانضمام إلى المظاهرات والإضرابات. ـ فضاء التشارك: بتمثل الذهن لصورة وخطاطة للأفراد الآخرين الذين يعارضون الشخص السياسي في الفضاء الواقعي العام، بأنهم أشخاص لديهم أفكار مختلفة عن أفكاره وليسوا أعداءً وجوديين بل خصوماً سياسيين.

تصوّرات الشخص السياسي عن النظام العام يجب أن تتسم بالتسامح إزاء الآخر السياسي وأن تصطبغ بروح التداولية

فتصوّرات الشخص السياسي عن النظام العام يجب أن تتسم بالتسامح إزاء الآخر السياسي وأن تصطبغ بروح التداولية، وتصوّر تبادل الموقع بينه وبين المختلفين عنه مرة في السلطة ومرّة في المعارضة. ـ فضاء النسبية: بتخلّي الشخص السياسي عن الآلية الذهنية المُشِّيئة لتصوّراته حول نظام السلطة، واعتبارها حقائقَ ذاتَ وجود أزلي ثابت، مستبدلها بإدراكها في الواقع كمصالح واهتمامات شخصية ذاتية يودّ أن يراها مطبّقةً ومن ثمة معمّمةً من الجانب التنفيذي الحكومي، وذلك في إطار الكل السياسي، السلطة والمعارضة.

الديمقراطية بُنية فوقية لها بنية تحتية، وتتحقق الديمقراطية عندما تتمكن السياسة من التدخل عبر فرض الضرائب ووضع وسائل تفتيش ومراقبة للهياكل الاقتصادية، وإلزام المتعاملين في الأسواق وخصوصا في الأسواق المالية بانتهاج طرق معينة تتماشى مع الصالح العام. هذه أنواع المعالجة التي تُبحث في النقاشات البينية في المجتمعات السياسية في الغرب. وليس في بلداننا فيما كتبنا وعبرنا عنه بديمقراطية الواجهة التي بدون ديمقراطية فعلية.