Atwasat

السيادة الوطنية أفيون الشعوب

علي الدلالي الأربعاء 09 أغسطس 2017, 11:01 صباحا
علي الدلالي

كتبت في مناسبات عديدة أن مسألة السيادة الوطنية هي أشد أنواع الأفيون تخديرا للمواطنين في السياق المباشر لفعل الأفيون، وذهابه بالعقل والجسد وحتى الروح أحيانا، وليس بالمعنى الذي أورده المفكر الألماني كارل ماركس في مقدمته لمؤلف مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل، أن "الدين أفيون الشعوب" المترجم عن الألمانية "Die Religion ist das Opium des Volkes"، ومعناه في اعتقاد ماركس أن للدين بعض الوظائف العملية في المجتمع تشبه وظيفة الأفيون بالنسبة للمريض أو المصاب، فهو يقلل من معاناة الناس المباشرة ويزودهم بأحلام طيبة، ويقلل أيضا من طاقتهم واستعدادهم لمواجهة الحياة الجائرة، عديمة القلب والروح التي أجبرتهم الرأسمالية أن يعيشوها*.

ومن هنا أعتقد أن من زرع في عقولنا بذرة أفيون "السيادة الوطنية" كان يتماهى مع الذين قاموا بتوظيف قول ماركس للتشويش على الماركسية والتحذير منها ويدرك جيدا المفعول السحري لعبارة "السيادة الوطنية" كما هو حال مفعول الأفيون الذي يذهب بالعقل.

كتبت في مناسبات عديدة أن مسألة السيادة الوطنية هي أشد أنواع الأفيون تخديرا للمواطنين في السياق المباشر لفعل الأفيون

لقد خرجت عديد الأصوات في عموم ليبيا واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي منددة بطلب السراج مساعدة بوارج إيطالية للتصدي لتجار البشر والمهربين الذين سيطروا على البحر الليبي بعد أن سيطروا على اليابسة الليبية وبخاصة على ممرات التهريب التقليدية والمستحدثة الذي طال البشر والوقود مرورا بالطوب والحديد والنحاس والألمنيوم والمواشي والسمك ولم ينته عند السلاحف، ورفعوا في وجهه فيتو "السيادة الوطنية".

إن الخطأ الفادح الذي ارتكبه السراج، في اعتقادي، ليس في طلب المساعدة من إيطاليا القوة الاستعمارية السابقة لليبيا - وإن كان ذلك وحده كفيلا بتأجيج مشاعر تلك الحقبة السوداء ومعاناة الليبيين المريرة من الفاشيست الطليان- وإنما في كونه على غرار كافة متصدري المشهد الليبي الحاليين والسابقين وربما القادمين لم يكلف نفسه عناء إبلاغ الليبيين بهذه الخطوة على اعتبارهم رقما على يمين الصفر والفاصلة، ولم تتواصل وسيلته الإعلامية الفاشلة التي تعتمد على "فيسبوك" مع الليبيين، وكأن الليبيين والليبيات جميعا منخرطون في وسائل التواصل الاجتماعي، علاوة على أنه لم يشترط، بحسب ما وصلنا من أخبار، على روما أولا التطبيق الحرفي لمعاهدة الصداقة الليبية الإيطالية الواردة في 23 مادة وعدم القفز على تلك المواد لتطبيق المادة 19 المتعلقة بالهجرة غير الشرعية، وثانيا وقد يكون الأهم التأكيد على رفض توطين المهاجرين غير الشرعيين في ليبيا تحت أي سبب على الإطلاق.

وبالعودة إلى "السيادة الوطنية" كأفيون للشعوب، لا أعتقد أن اليابان وألمانيا وإيطاليا المهزومة في الحرب العالمية الثانية والمزروعة جميعها اليوم بالقواعد الأمريكية بشروط المنتصر تعتبر استباحة الجنود الأمريكيين لأراضيها ومياهها الإقليمية وأجوائها انتقاصا من سيادتها.

وفي ذات السياق ماذا تقول قطر وتركيا والإمارات والسعودية المزروعة هي أيضا بالقواعد الأجنبية والعساكر وربما المرتزقة، وذكرتها تحديدا هنا لتورطها في الشأن الداخلي الليبي بسكب الزيت على النار خدمة لمصالحها، وحتى مصر الخاضعة إلى ترتيبات عسكرية تضبطها اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل، وتمنع عليها على سبيل المثال، إدخال "طبنجة" واحدة أو تحريك آلية عسكرية واحدة من وإلى سيناء دون علم إسرائيل.
أقتبس في إطار أفيون السيادة الوطنية أيضا من تصريح لوزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم في رده على سؤال لأحد الصحفيين حول منح بلاده قاعدة العيديد التي تحتل ربع مساحة الدوحة إلى الجيش الأمريكي، قوله "إن منح هذه القاعدة للقوات الأمريكية هو أمر سيادي لدولة قطر ولا يحق لأي أحد التدخل في السيادة القطرية".

ليس العام 2011 ببعيد عن أذهاننا حيث وُصفت الطائرات الفرنسية وصواريخ توماهوك الأمريكية والبريطانية ومن بعدها طائرات حلف شمال الأطلسي التي كانت تضرب الأراضي الليبية بـ "الطيور الأبابيل" واختفى مفهوم السيادة الوطنية من عقولنا وأحاسيسنا وموروثنا الثقافي وقتذاك، بل وكانت النساء في بعض المناطق يزغردن عند سماع هدير هذه الطائرات يملأ سماءنا رعبا وتدك قنابلها وصواريخها الأرض الليبية دكا، فيما نقلت فضائيات العالم صورة ذالك الشخص وهو يصرخ في ذروة السكرة "أين الناتو".

السماء الليبية خاضعة منذ 2011 على مدار الساعة لعيون الطائرات بدون طيار

إن السماء الليبية خاضعة منذ 2011 على مدار الساعة لعيون الطائرات بدون طيار أو ما يُعرف بـ "الدرون" ولم تتأخر طائرات حربية مجهولة الهوية تارة ومعلنة عن نفسها مرات عدة عن اختراق الأجواء والسيادة الليبية وضرب مدن ليبية في الشرق كما في الغرب ووجد العديد من متصدري المشهد هنا وهناك التبريرات لهذه العربدة العسكرية في بلادنا.

قرأت الكثير عن أفيون السيادة الوطنية وقد أكون وجدت فيما سجله الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه"زيارة جديدة إلى التاريخ" نقلا عن رئيس وزراء الهند الأسبق جواهرلال نهرو في مؤتمر باندونج، النواة الأولى لحركة عدم الانحياز عام 1955، الكثير من الإجابات الشافية.

يقول هيكل : "كان منظر نهرو داخل القاعة أخاذا ومؤثرا. رداؤه الأبيض ما زال كالثلج الشاهق البياض. والوردة الحمراء كأنها جمرة مشتعلة على صدره".

يضيف هيكل : "أزاح نهرو رداء رأسه التقليدي الأبيض وألقاه أمامه على المائدة بغير اكتراث ثم أدار رأسه العاري إلا من شعره الذي غطاه الشيب وقال وهو يدور بنظره حول القاعة المشدودة الأنظار :
"أيها السادة أنتم تثيرون فزعي".

وسرت في القاعة همهمة ضاحكة ولم يتوقف نهرو.
- "نعم أنتم تثيرون فزعي وإلى درجة الموت".

وساد القاعة صمت أمسك بأنفاسها مرة أخرى بينما نهرو يتأهل للكلام ويدير البصر حوله في القاعة التي تسمرت أنظار الكل فيها عليه.
قال نهرو:"إن كثيرين من أصدقائنا يتكلمون هنا عن الحرية والاستقلال ... كثيرين خصوصا من رفاقنا في أفريقيا. إنني عددت كلمة الحرية والاستقلال في كلمة ممثلي الحركة الشعبية في كينيا وروديسيا(زمبابوي فيما بعد) فإذا هي كثيرة جدا. المندوب المحترم من كينيا كررها 19 مرة والمندوب من روديسيا كان أكثر تواضعا وكررها 16 مرة. وأريد أن اسألكم ماذا تعرفون عن الحرية والاستقلال.. ماذا نعرف جميعا عن الحرية والاستقلال"؟.

ويمضي نهرو: "إذا تصورنا أنه إعلان المستعمر القديم بسحب حامياته من أراضينا ثم يوقع معنا قصاصة ورق فهذا هراء. ذلك سهل وهم على استعداد لأن يفعلوه غدا.ولكن ماذا بعد؟ هل سألتم أنفسكم هذا السؤال"؟
ويزيد نهرو :" قلت لكم إنكم تثيرون فزعي لأنكم لا ترون ما هو أبعد من موقع أقدامكم. تشغلون أنفسكم باللحظة التي مضت وليس باللحظة القادمة".

ستغيرون اتجاه سلاحكم من أعدائكم القدامى إلى أعداء جدد داخل بلادكم

ويصل إلى القول: "سوف تتولون المسؤولية وتجدون أنفسكم رؤساء لشعوبكم. لديكم قصور رئاسية، ولديكم حرس رئاسي، ولديكم سيارات رئاسية وربما طائرات... ليس هذا هو المهم. هل ستجدون لديكم سلطة رئاسات؟ لست متأكدا". ستجدون لأنفسكم سلطة على رعاياكم ولكن لن تجدوا لأنفسكم سلطة على غيرهم".
ويستطرد: "ستغيرون اتجاه سلاحكم من أعدائكم القدامى إلى أعداء جدد داخل بلادكم".

لقد قال نهرو الكثير والكثير ولا يزال كل ما قاله حقيقة ماثلة أمام أعيننا اليوم منذ مؤتمر باندونج عام 1955 أي مازلنا نرزح تحت نير الاستعمار الجديد في أشكال وصور أخرى لأننا لم ننتبه إلى ما قاله نهرو وقتذاك من "أن السيطرة الجديدة لن تكون بالجيوش ولكن بالتقدم".

إن الخط البحري الإيطالي"لينيا ماسينا" الذي يأتينا بالدقيق والزيت النباتي والحليب وحليب الأطفال والدواء والأرز ومعجون الطماطم والورق وأقلام الحبر والرصاص وأسلاك الكهرباء، وكل شيء...، لا يقل خطورة في اعتقادي، في المساس بالسيادة الليبية عن تلك البارجة الحربية التي تم تسييس زيارتها لأسباب يعرفها حتى الأطفال في ليبيا.
*ويكيبيديا.