Atwasat

حقا.. من أنتم؟

علي جماعه علي الأربعاء 19 أبريل 2017, 08:55 صباحا
علي جماعه علي

في تلك الليلة الباردة من فبراير حين تسمرت الآذان تتسمع حتى دبيب النمل، وحين القلوب توجست، وحين لم ينم في بنغازي إلا أطفالها، حينئذٍ شقت سكون المدينة، صرخة مدوية حزينة مرعبة، رددت صداها، على الفور، شوارع مرهقة تشاكسها وشوشة ريح تتسكع على غير هدى. اندفعت تلك الصرخة، عبر ليل الصحراء البهيم، تطوي المسافات طيا، كخيول مجنونة، تقرع بحوافرها طبول القدر المروع، تُسمعه لكل من لم ينم، وأيقظت من نام، حتى وصلت مبتغاها، فانتهكت خلوة عجوز قلق مصدوم، كأنه في انتظارها، فأحاطت به كدوامة إعصار، لابد أنه سمع فيها زمجرة الغاضبين وآهات المستضعفين والمخدوعين المحبطين والمظلومين، يخالطها نحيب الضحايا المغدروين على مر العصور. صم أذنيه، وكاد لهول ما سمعه أن يغشى عليه، فجثا على ركبتيه، ثم صرخ بصوت، ظنه قويا يطردها، لكنه كان ضعيفا، متهدجا، منكسرا، حمل تلك العبارة المشهودة: من أنتم!.

حقا من أنتم؟. من أنت أيها الليبي؟. حيث الإجابة تقودنا لمعرفة ماذا حل بنا وكيف يمكن أن ننقذ أنفسنا؟.

وكونك ليبيا فأنت، إذن، صاحب رحلة العذاب الطويلة المريرة، حيث لم يرحمك أحد، لم يعطف عليك أحد، لم يتعاطف معك أحد. المطر يتحاشاك إلا قليلا، الرمال تزحف عليك لتردمك حيا، الأفعى تتربص لتنهش قدمك، رجل الاستخبارات يرعبك، والموظف يأكل حقك، الذئاب تغافلك وتفترس أغنامك. الحاكم يستخف بك ويقهرك.

لا أحد يدعو لحرب من أجلك تنتصر فيها حقوقك بالدستور والقانون

ألهب ظهرك سوط الإيطالي في المعتقل، وأرهقك التركي بالضرائب، وتمرغت على قبور الأولياء، وسففت من رمالها لنيل البركة، وجذبت في (الحضاري)، واستنشقت البخور حتى أجهشت بالبكاء، لعلك تفرغ بعض من غصة المظالم الخانقة.

أجبروك أن تدخل على زوجتك لتمارس الجنس في ليلة مشهودة، في حفلة علنية، وأن تسلم لهم قماشة بيضاء ملطخة بدمها دليلا على عفتها وشرفها، وإذا لم تأتِ بالإثبات، فأنت مشكوك في رجولتك أو مسحور، يلزمك أكل قطعة لحمة مطبوخة في الثوم والفلفل، وأن تخبيء تميمة الفقي تحت وسادتك ثلاثة أيام بلياليها.

وأنت تسبح مذعورا في نهر في أوغندا هروبا من تمساح يطاردك ليبتلعك، وأنت تتعنكش في مؤخرة عربة عسكرية هربا من مقاتل تشادي ينوي قتلك أوالقبض عليك لأنه يراك غازيا لبلده.
وأنت رأسك قد شجته علبة حليب في شجار في طابور لتوزيع الحليب في السوق الشعبي!.
ورأسك شجته هراوة ابن عمك في ساحة مدرسة لاختيار شيخ المحلة!.
ورأسك ملقاة على بلاط مغبر، ورجلاك معلقتان بحبل يمسك به زملاؤك في الفصل، حيث تلهب عصا معلمك الغليظة قدميك الرطبتين.
وأنت مقيد بحبل حيث يلهب فقي جاهل ظهرك بالسياط لإخراج جن استولى على جسدك، ويرفض الخروج تمسكا بمقولة "البيت لساكنه".
وأنت مطالب بإحضار عِلم وخبر يثبت أنك (وسخ) للحصول على صابون من الجمعية، أو كما يحلو لك التنكيت على عبث النظام، مع أصدقائك الموثوقين.
وأنت حبيبتك تزوجها ضابط عجوز متنفذ، لأنك فقير لا تملك إلا مشاعر حب.
وقبيلتك تقاتل دون أرضها، فتموت، ولا يحصل أبناؤك منها على بيت يأويهم أو مزرعة يتعيشون منها.
وأنت عليك أن تتقن مفردات التملق، وأن تدلق ماء وجهك للحصول على أدنى حقوقك، وأن تتغاضى عن ألمس بشرف زوجتك أو أختك، لأنها تأتي ببعض المال للعائلة، حينما لا يكفي المرتب، ولا فرصة عمل متاحة أمامك وتضطر لبيع الحشيش حين تصد أمامك الأبواب.
وأنت تلملم على عجل صرة بضاعتك المفروشة في الشارع لتهرب بعد أن كاد الحرس البلدي يمسك برقبتك، لكن رجلك تعثرت، وسقطت صرتك، وتبعثرت محتوياتها على الطريق، فنظرت إليها بعين الحسرة ثم اختفيت في الزحام.
وأنت تصحر دماغك من كثرة مساحيق الغسيل الآيديولوجي والديني والسياسي، التي أوهمتك السلطة أنها علاجك ضد المؤامرات الإمبريالية والماسونية التي تستهدفك على الدوام ولا تنتهي أبدا.
وأنت بدأت في مضغ تمرة الإفطار في رمضان وحلقت عيناك في شاشة التلفزيون، فإذا أجساد الضحايا من "الخونة الرجعيين" تتدلى أمام عينيك من حبل المشنقة والهتاف المصاحب يصم أذنيك.
وأنت مجرور من رجليك في باب العزيزية وقد أدمى الإسفلت ظهرك والعسكر يرشقون حرابهم في جسدك ويركلون وجهك بأحذيتهم الثقيلة ويقطعون أصابعك ويصلبونك عاريا فوق شجرة.
هذا أنت، تملك الذكاء لكن المدرسة تقتل إبداعك.

تملك المبادرة، لكن الحكومة تغتال طموحك.
تملك لسانا وشفتين، لكنك مجبر على السكوت حتى لا تخسرهم مع رقبتك.
تملك اسما، لكنه لن يكون رئيسا.
تملك حلما، لكنه مصادر بالاستبداد.
تملك جسدا لكنه معرض للتعذيب.
تملك وطنا تعشقه. لكنك غريب فيه.
تملك رغبة جامحة للقراءة الحرة، فلا تجد مكتبة حرة.

وأنت وقود حرب العسكر بشعار مكافحة الإرهاب وحرب المفتي والثوار بشعار حماية الثورة، وحرب السلفية بشعار حماية المجتمع من أفكار الحرية

وكان قدرك أن تنتفض على أثر الصرخة المرعبة الغاضبة في تلك الليلة، وأن تقاتل أخيك في الصف الآخر، وأن تعيش لأول مرة في حياتك في دولة بدون حاكم وأجهزة قمع. وأن اليوم لا سلطان عليك، مكشوف تحت شمس الحقيقة، مثقل بأحمال القمع المتراكم، لكن مطلوب منك أن تبني دولة جديدة من الألف إلى الياء. وأن تكون ابن وطنك لا ابن قبيلتك، وأن تؤمن بالعلم لا بالخرافات، وأن تسمع صوتك ولا تخاف السجن، وأن تكتب دون أن تخاف من قطع أصابعك. وأن تقرأ الممنوع دون أن يصادر كتابك أحد. وأن تتحرر بالحب من أوثان العبودية والكراهية التي تشوه عقلك وقلبك وروحك.
لكنك من جديد تحني ظهرك لمزيد من أثقال الظلم والإحباط والتجهيل، ولمن يسعى لاستعبادك من جديد.
فها أنت مهجر من بيتك ست سنيين بسبب مليشيات جهوية لا تعرف قيمة التسامح.

والتهبت مؤخرتك من كثر الجلوس على كرسي (الاربعطاش ونص) في اشتباكات لا تنتهي مع الأخوة-الأعداء بدل الجلوس على مقاعد الدرس والسينما والحديقة والمكتبة والبورصة ومعامل البحث ومقصورة مركبة فضائية أو كرسي رئاسة بلدك.

وأنت ممنوع من قراءة الروايات والكتب الفكرية بأمر (سلفية) القيادة العامة.
ومحروم من أكل عصيدة المولد ومن التهنئة بالعام الجديد بتوصيات مفتي البلاد.
ومضلل من جيوش الكترونية وصحف وقنوات فضائية اقتحمت بيتك وأرعبت عائلتك بالكذب والفتنة والتضليل.

وأنت يغمى عليك، من وطأة الزحام في المصرف، ومخطوف إذا قدت سيارة غالية، وسجين بلا محاكمة عادلة، ويمخر بك قارب هجرة متآكل للوصول إلى أوربا.
وأنت وقود حرب العسكر بشعار مكافحة الإرهاب، وحرب المفتي والثوار بشعار حماية الثورة، وحرب السلفية بشعار حماية المجتمع من أفكار الحرية. لا أحد يدعو لحرب من أجلك، تنتصر فيها حقوقك بالدستور والقانون، حيث لا قوة طاغية مزاجية تخنق أنفاسك، وتكتم صوتك، وتقطع أصابعك ورقبتك، إذا أردت، في لحظة حلم جميل، أن تكون إنسانا وليبيا كريما.