Atwasat

الجنرال وتوبة القطوس!

علي جماعه علي الإثنين 10 أبريل 2017, 11:07 صباحا
علي جماعه علي

يلزم التنويه أولا، أن القطوس هو القط، وأن الليبيين ألحقوا حرفي الواو والسين بذيل اسمه لإضفاء مزيد من الفخامة اللغوية عليه، أو هكذا يبدو. وعن القطوس، يحكي الليبيون أنه، ذات يوم، أعلن التوبة النصوح، وأراد غسل ذنوبه بالحج، ليعود قطا ورعا، مسالما، كما ولدته أمه، وكأن لم يفترس في حياته فأرا واحدا، أو لم يغافل الحاجةَ مشهية، ويسطو على قديدها في أول أيّام العيد.

تهيأ للفئران أن القط سيعود من حجه عاقلا، زاهدا في ملذات الدنيا، في انتظار الموت بضمير مرتاح، بعد أن بلغ من العمر عتيا، واشتعل منه الراْس شيبا، لذا اجتمعت، و قررت كباقي الحيوانات، الذهاب للتهنئة. فلما دخلوا عليه، وجدوه وقد غطى راْسه بقماشة بيضاء، لزوم التقوى والصلاح. وما إن هم أولهم بمصافحته، حتى انتصب جسد الحاج قطوس مثل رمح مشدود، وعرشت على الفور أذناه، فتقافزت الفئران، يمنة ويسرة، من الذعر، وسارع الحضور بالصراخ والاحتجاج، وتذكير الحاج بحجه، وتوبته التي لم يمض عليها يومان.

زمط الحاج ريقه وقال لهم، لا تخشوا شيئا، ولا تذهب بكم الظنون بعيدا، إنما هي فقط بقايا عادة "النط" القديمة.

وفي العالم العربي، بما في ذلك أرض القطوس، لدينا جنرالات لم تتخلص بعد من "نطتها " القديمة، كلما تراءى لها كرسي الرئاسة فاتحا ذراعيه، حتى وإن حجت الى المزار الديمقراطي وعادت منه تائبة عن لعبة الانقلابات.

ففي غياب التقاليد الراسخة للديمقراطية وهشاشة المؤسسات وضعف آليات الحرية في المجتمع، يظل الجنرال مهجوسا بالقفز إلى كرسي الرئاسة

ففي غياب التقاليد الراسخة للديمقراطية، وهشاشة المؤسسات، وضعف آليات الحرية في المجتمع، يظل الجنرال مهجوسا بالقفز إلى كرسي الرئاسة بفضل امتلاكه سلطة الأمر على الجنود، والسلاح. لا يجد الجنرال غضاضة في ذلك، فهو فرد يعيش في مجتمع، ينشأ أطفاله على فكرة أن الحكم لا يتأتى إلا بالمغالبة وقهر الخصم، أو بنص عبارة مستشار أمني للعقيد القذافي عندما سُئل عن تعريف الثورة، أجاب بكلمات قاطعة أنها "تريس باركة على تريس" أي: "رجال تقهر وتسحق رجالا".
ما إن يضع الجنرال مؤخرته على الكرسي، حتى تنخر راْسه وساوس الخوف من جنرال آخر يخطط بالليل لسرقة الكرسي المسروق أصلا. تلك الوساوس اليومية التي تنخر عقل الجنرال ستتحول إلى سوس ينخر ببطء ويوميا جسد الوطن والدولة، حين ستنطلق بتوجيهات الجنرال حملات القمع الاستباقي من سجن، وقتل ، ونفي المعارضين، والرشوة والمحاباة وإفساد الذمم لشراء الولاء، بما في ذلك تأسيس جيش مواز من المخبرين. تلك وغيرها من أعمال القمع والإفساد هي برنامج الجنرال اليومي لقطع طريق الإذاعة أمام الجنرال الجديد، ومن هنا يبدأ مشروع عسكرة الدولة وما جره علي العالم العربي من فساد وخراب، دفع الناس للخروج في الشارع تطالب جَهْرًا بإسقاط نظام الجنرالات المأزوم.

نجحت كثير من دول العالم في تحصين مجتمعاتها ضد متلازمة (نطة الجنرال)، أما عندنا فقد وفرت أوضاع ما بعد ثورات الربيع العربي حقنة قوية لتحفيز غدة النطة الانقلابية لدى الجنرالات، فدغدغت في نفوسهم الحنين إلى ماضي مجد العسكر التليد، غير البعيد، عندما كانت مدرعاتهم تطوي الأسفلت من الثكنة إلى القصر الجمهوري مرورا بالإذاعة حيث تتم تلاوة البيان رقم واحد مصحوبا بالموسيقى العسكرية. يا لها من مفارقة مؤلمة، حين يصبح السطو على ميكرفون البث في الإذاعة بمثابة السطو على دولة وشعب وأحلام ومستقبل.

وإذا الفئران تقافزت مذعورة من نطة الحاج "قطوس"، فإننا سنجد الفئات الأدنى ثقافة ديمقراطية والضعيفة تعليميا والمهمشة اقتصاديا قد نطت إلى حضن الجنرال في حنين طفولي بائس وساذج لثدي الاستبداد الهزيل والبغيض، فهى ترى في الجنرال أمان القوة القاهرة المجربة حتى بمظالمها ووحشيتها، في مقابل أمان قوة مؤسساتية عادلة ولكنها غير مألوفة، ومازالت في طور التشكل. وهي ترى فيه الاستبداد الذي يحافظ على الوضع القائم الساكن الراكد حتى بإخفاقاته وثقل وطأته على الصدور، في مقابل الحرية الواعدة بالتغيير نحو وضع إنساني أفضل، لكنه ملتبس في خيالها، عسير على إدراكها. كذلك فإن الجنرال يتماهى مع إرادتها الخانعة العاجزة، في مقابل الحرية التي تستحتها على النهوض والمبادرة والمشاركة والمنافسة والتغيير المستمر.

ستشجع (نطة الجنرال) كذلك قوى الفساد الجشعة للقفز في حضنه، ذلك لأنها تخشى أنظمة الشفافية والمكاشفة والمنافسة الموعودة في النظام الديمقراطي، فتتقرب من الجنرال ليحميها ويسهل أعمالها مقابل ولائها ، واستفادته من شبكة علاقاتها المصلحية، واستعدادها المجرب للتخلي عن شرفها مقابل خدمته.

ستنط في حضن الجنرال كذلك القوى الأصولية الدينية التي ترفض الانتخابات باسم الدين وتؤيد الاستبداد باسم الدين كذلك. في المنبر تدعو صباحا لجنرال "علماني" حليق الذقن،وفي ذات المنبر، تتحدث في المساء، عن عدل عمر وعن فضل إعفاء اللحية. قبل هؤلاء جميعا، سينط في حضن الجنرال، الشعراء والكتبة والصحفيين المداحين. هؤلاء السحرة سيعيدون على مسامعكم موعظتهم الأثيرة، بأن الشعب مثل قطيع أغنام يحتاج لراعٍ يعلفه ويعنفه ويحميه من شر الذئاب. لكن سحرة الجنرال لن يقولوا لنا بأن سيدهم لن يتوانى كذلك عن ذبح القطيع قربانا لوهم أمجاده، وأن الإنسان خلق ليكون خليفة الله على الأرض، و ليس بهيمة في حظيرة الحاكم.

في وسط حفلات النط الهوجاء تلك، سيتم وصم القوى المناهضة للاستبداد بالنخبة النرجسية الغارقة في الوهم، ثم تاليا وصفها بالعمالة، وسيتم تشويه مصداقيتها ، وضرب مشاريعها التنويرية، والتحريض عليها وسجنها ونفيها وحتى تصفيتها جسديا.

إن النكوص لحكم العسكر باسم فرض الأمن ومكافحة الاٍرهاب هو لعبة خطرة

نصيحتي لكم، أن نحمي كرسي الرئاسة من نزق وطيش ونطة الجنرال، ذلك لا يتحقق إلا بدستور ديمقراطي يتوافق عليه الشعب، وثقافة ترسيخ الديمقراطية في المدارس والإعلام ونشاطات المجتمع المدني، وبناء مؤسسات كفؤة للفصل بين السلطات، والأهم بناء مؤسسة جيش محترفة منضبطة، تفتخر بحماية الديمقراطية، لكنها لا تتدخل في السياسة.
يجب أن نحفظ لكرسي الرئاسة شرعيته هيبته وفاعليته، بأن لا يصل إليه إلا من انتخبه الناس في منافسة شريفة عبر صندوق الانتخابات، وليس من يسطو عليه بالمدرعات في فجر الانقلاب.

إن النكوص لحكم العسكر باسم فرض الأمن ومكافحة الاٍرهاب هو لعبة خطرة، لن تفضي إلا لتكرار نفس الأخطاء التي ارتكبها العرب، أملا في الحصول على نتيجة مختلفة، وهو الجنون بعينه وأنفه. فلا تصنعوا دكتاتورا بحجة الأمن، ثم يثور عليه أبناؤكم باسم الحرية لاحقا، عندما لا تساوي قيمة الأمن، ثمن الحياة تحت عفسة دكتاتور أحمق. إن فعلتم ذلك، فأنتم تصنعون بأيديكم فتيلا لثورات دموية قادمة، بل وتتركون بقربه زيت الاشتعال الثوري، أنتم بذلك كمن يضيع وقته الثمين في صناعة دكتاتور من تمر، فإذا جاع أبناؤه التهموه.

قد يقول لكم الجنرال، لا تذهب بكم الظنون السيئة بعيدا، كما قالها الحاج قطوس للفئران المذعورة. فلا تصدقوه، إنه حقا ينوي القفز علي الكرسي، ومن ثم الاستفراد بكم، هو وحاشيته، وقهركم وإفساد حياتكم كما فعل أسلافه ، وذلك لن يتأتى للجنرال، إذا حصنتم مجتمعاتكم بالحرية وقبول التنوع الثقافي، والتعدد السياسي، ودعم مؤسسات المجتمع المدني، وحكم القانون.